أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"ليل غرناطة" لعبد الرحيم جيران!!
بقلم : عبد السلام دخان* ... 11.10.2013

التباسات الوهم وجماليات التأويل
يطل الأديب عبد الرحيم جيران على المشهد الثقافي هذه السنة بإصدار إبداعي جديد، موسوم بـ’ليل غرناطة’، وتعد هذه المجموعة القصصية ثالث عمل سردي يصدر للكتاب بعد عمله الروائي الأول المعنون بـ ‘عصا البلياردو’ الصادر عن دار إفريقيا الشرق. وروايته الصادرة حديثا عن دار الآداب الموسومة ب’ كرة الثلج’ .
ومن المنتظر أن يصدر كتاباه المهمّان ‘سراب النظرية’، و’علبة السرد’ عن دار الكتاب الجديد المتحدة. ‘ ليل غرناطة’ عمل سردي قصصي صادر عن دار الأمان بالرباط، وهي من القطع المتوسط، وتتكون من 80 صفحة، وتتضمن أربعة عشرة قصة قصيرة تضم القصص التالية: القصص: خداع بصري- تبدل- في خدمة السيد- مزبلة الأمريكان- ظل صورة- سيرة الولع- التباس- خريف حلم حين تكذب الأنامل- هسيس الزمن- رسوب- طبع متجذر- ليل غرناطة- انشطار. ويعمل عبد الرحيم جيران في هذا العمل القصصي على نقل عدوى المغايرة في السؤال والإبداع إلى جنس أدبي لطالما شكّل صعوبات جمة في تصور حدوده، وإبدالاته الجمالية، وإمكانات أسلبته العالم والحياة. وتتميز القصص المتضمنة في هذه المجموعة بتنوع الموضوعات المخيلة فيها، وبطرائق تشخيصها، وأسلبتها فنيا، وإعادة صياغة علاقة القارئ بالسرد.
ويمكن لنا أن نجزم بأن ‘ليل غرناطة’ تكاد تشتغل قصصها جميعها على مسألتين هامتين هما: مسألة الوهم بكل تنويعاته المختلفة، وما يترتب عليها من التباسات في استدخال العالم وإدراكه، ومسألة التأويل التي تنجم عن طبيعة النهايات التي تختتم بها النصوص، بما يترتب عليها من إعادة موضعة القارئ أمام ما يقرأ، وجعله مشاركا في إنتاج النص عن طريق دفعه إلى طرح أسئلته الخاصة في صدد ما يقرأ. ولا تتأتى مسألة التأويل ذاتها من كون النهايات مفتوحة أو مغلقة، وإنما من تضافر هذه الناهيات بمسألة الوهم التي تشتغل في هيئة هدف جمالي خلف عملية السرد. كما يختلف التأويل وفق موضعة الوهم: أيوضع في صلب إدراك الشخصية ذاتها، بحيث يكون للزمن ثقل بارز في حدوثها (الذاكرة)، أم يوضع في صلب الواقع ذاته، بحيث يكون الإدراك جوهرا حساما في إنتاجها.
ولعل من ميزات الكتابة أيضا في هذه المجموعة القصصية كونها تحاور- من داخلها- مجموعة من النصوص المُمثِّلة في السرد العالمي، وتقنيات بعض الفنون، فآلية التكرار التي هي من خصائص الكتابة السردية عند وليام فوكنر تعاد صياغتها في هذه المجموعة عن طريق ممارستها عبر نصوص مختلفة، لا عبر نص واحد. كما أن توظيف هذه الآلية يتم انطلاقا من استعادة نص ‘دون كيخوطي’، لا من حيث إن البطل فيه يسعى إلى إحياء عالم قديم، ولكن من حيث إنه يوطد العزم على إخبار المعشوقة بالأمجاد التي يحققها عبر رسائل يوجهها إليها. ويُلمس هذا المظهر الجمالي في في عدد من نصوص المجموعة القصصية، إذ يبدو العديد من الشخصيات مهووسا بالرؤية إلى العالم من خلال إثارة إعجاب الحبيبة أو المعشوقة، ويتكرر هذا الأمر عبر قصص ثلاث هي: ‘سيرة الولع′، و’ظل صورة’، و’طبغ متجذر’، بحيث يصور ما يحدث انطلاقا من انشغال الشخصية بالمحبوبة. بيد أن هذا التكرار لا يقدّم في هذه النصوص الثلاثة بالتشخيص نفسه، بل من خلال التنويع على طريقة عرضه. لأن الغاية من توظيفه تظل واحدة، وتتمثل في محاولة تشخيص خاصية الحماقة التي تتخفى وراء أفعال تنحو إلى أن تكون بطولية، ومن ثمة نلمس المفارقة بين ما هو أصيل، ومحرّف عن الجوهر، الشيء الذي تتولد عنه تلك النفحة الساخرة التي تظهر على نحو نصف مكتوم.
أما خاصية اتجاه ‘ليل غرناطة’ إلى توظيف بعض ميزات الفنون، فتظهر في سعيها إلى توظيف إحدى مظاهر الفن التشكيلي المعاصر، والمتمثلة في الاشتغال على موضوعة محددة تتكرر عبر اللوحات، وذلك عبر إعادة صياغتها فنيا، وتحويلها إلى مجال للبحث بغاية الكشف عن إمكاناتها المختلفة في التعبير. وهذا ما نلمسه في أغلب قصص المجموعة، إذ تتكرر فيها موضوعة الوهم، التي تسقط القارئ في حبائلها، وتجعله يقع ضحية الكاتب، ويصير جهد القراءة لديه موجها نحو رفع الالتباس بإعادة تأويل مقروئه. في ضوء ما تحمله الخاتمة من انفجاء. لكن موضوعة الوهم هذه تُعدِّد- على الرغم من وحدتها الشكلية- من محتواها بالاستناد إلى موضوعها، فهي تارة تطول البصر، وتارة ثانية الذاكرة، وتارة ثالثة التقمص والذوبان في ما هو تمثيل متشرب لنماذج محددة يصير الواقع معادا إنتاجه عبرها، كما هو الحال قي قصة ‘سيرة الولع′ التي تتقمص الشخصيةُ خلالها عالم السينما، والنظر إلى الواقع انطلاقا منه.
كما تتميز هذه المجموعة بكونها تعدد في الطرائق الأسلوبية التي تشيد بها عوالمها السردية، فهي تغترف من أساليب متعددة، وتخضعها لنوع من التنضيد الجمالي تبعا لطبيعة الموضوع الذي تعنى بسرده. ففيها يحدث التجاور بين أسلوب السرد، وأسلوب الوصف، وأسلوب السخرية، وأسلوب الحوار الداخلي، وأسلوب الاستفهام، وأسلوب التقويم…الخ. وتستخدم الأسلبة في الأغلب من أجل خدمة غايات جمالية، وبخاصة لما يعرض أسلوبٍ ما من خلال ممكنات أسلوب آخر، ليضيئه، كما هو الحال في قصة ‘خريف حلم’؛ حيث يعرض أسلوب الاسترجاع ‘الفلاش باك’ من خلال أسلوب الحلم. فالغاية الجمالية من هذا الاستخدام الأسلوبي في هذه القصة يتمثل في إظهار صياغة الماضي لحاضر الشخصية، إذ يتخذ طبيعة استحواذ نفسي يجعل الشخصية تعيش عالمها الآني من خلال مسحة الندم. ويضاف إلى ذلك أن الجملة السردية تتراوح، وهي تعرض العالم، بين الطابع الموضوعي الذي تنقل عبره الحركة في جريانها الواقعي، أو تصف بواسطته الأشياء على نحو دقيق، وبين الطابع الذاتي الذي تدخلن فيه الحركة والأشياء، فتمررهما معا من خلال حساسية العين التي ترى، أو من خلال التأمل الخاص.
إذا كانت القصة القصيرة هي ابنة اللحظة الهاربة، وتسعى إلى الإمساك بها، لتقدم صيرورة العالم من خلال جزئيتها، وتربط بين هذه اللحظة الموجزة، ومكان محدد، فإن ‘ليل غرناطة’ لا تخرج عن هذا التوصيف الجمالي، لأنها تكاد جلها تعرض هذه اللحظة من خلال اعتماد مكان مفتوح، وغالبا ما يكون هذا المكان محددا في الشارع، حيث إمكان الرؤية ممكنة، وإمكان اللقاءات ممكنة. لكن هذا لا يمنع من تناول أمكنة تبدو أنها مغلقة، غير أن انغلاقها ما يلبث أن يصير مفتوحا، في هيئة إطلالة، كما هو الأمر في قصة ‘هسيس الزمن’ حيث تضطلع الشرفة بإحداث الانفتاح، لكنه انفتاح على الزمن في تحوله، أو في هيئة حلم يقظة يعاد بموجبه إنتاج الواقع في تعذر تحوله، كما هو حادث في قصة ‘الكوخ’.
إذا كان من المفروض على كل مجموعة قصصية أن تنبني على وحدة ما تبرر وجود قصص مختلفة ضمنها، فإن ‘ليل غرناطة’ لا تكتسب هذه الوحدة من خلال الموضوعات التي تعالجها، أو وحدة من الترابطات الخفية غير الواعية، بقدر ما تكتسبها من الطريقة التي تعرض بها. ويمكن إجمال هذه الطريقة في كيفية بناء القصة التي تحرص على عرض العالم المسرود على نحو عاديّ، كما هو مألوف، لكن لا يلبث كل شيء أن يتحول في النهاية إلى التباس، وهذا البناء يمكن وصفه بأنه يندرج في ما وصفه الكاتب في كتابه ‘في نظرية السرد’ بالسرد التأويلي الذي يتأسس على التراوح بين التوقع والانفجاء. يصاغ التوقع من جعل السرد- وكذلك تنبه القارئ- يستغرقان حركتيهما في ما هو اعتيادي، ويصاغ الانفجاء من الانتقال المفاجئ والسريع إلى ما يضاد هذا التوقع. ولربما كانت حركة النهاية المفاجئة والسريعة مماثلة لما يحدث في الموسيقى حين ينتقل فيها العزف من شدة النغم وقوته إلى خفوت مفاجئ يعلن عن الانتهاء.
ما يستنتجه القارئ المتمرس بالنصوص السردية أن الكاتب لم يكتب هذه المجموعة القصصية انطلاقا من مواجهة البياض، أو انطلاقا من مواجهة فراغ الصفحة من دون تخطيط مسبق، أو خاوي الوفاض، بل العكس هو الوارد. فلا شك قراءتها تشعرك بأنه كتبها انطلاقا من استحضار مجموعة من الأسئلة الجمالية، ووفق تصور مبني في الكتابة جاءت النصوص السردية المتنوعة في هذه المجموعة لكي تجيب عنه، وتجسد ممكناته. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يمتد إلى أن يجعل من الكتابة نوعا من المحاورة بين نصوص عديدة، بما فيها نصوص النكتة كما هي ممارسة في الثقافة اليومية. وقد لا نكون مبالغين إذا عددنا هذه المجموعة إضافة نوعية في مجال الكتابة السردية بالمغرب، وبخاصة في مجال القصة القصيرة.

*شاعر وباحث من المغرب
1