أحدث الأخبار
الجمعة 07 شباط/فبراير 2025
انتحار الأطباء في إيران... ضحايا الأوضاع المتردية في البلاد!!
بقلم : صابر غل عنبري ... 07.02.2025

تنعكس الأوضاع المتردية في إيران اقتصادياً واجتماعياً على الأطباء المقيمين، إذ يتحملون مسؤوليات كبيرة لكنهم يتقاضون أجوراً قليلة، ويعملون في ظروف سيئة تنعكس عليهم سلباً ما زاد معدلات الانتحار بينهم مقارنة بباقي الفئات.
- لم تجد اختصاصية القلب برستو بخشي (35 عاماً) بداً من ترك بيتها في العاصمة الإيرانية والسفر يوم 19 مارس/آذار 2024 في اتجاه الجنوب الغربي لاستلام مهام عملها، طبيبة مقيمة في مستشفى ابن سينا بمدينة نور أباد بمحافظة لورستان التي تبعد 460 كيلومتراً عن طهران، في خطوة أخرتها كثيراً بسبب إصابتها بالاكتئاب عقب وفاة والديها، إذ ظلت عاماً كاملاً تحاول تغيير مكان خدمتها الإلزامية لكن محاولاتها باءت بالفشل.
حاولت بخشي تقبّل وضعها الجديد لكن وفي يوم عملها الأول تعرضت للإهانة من قبل أحد أساتذة الأمراض الباطنية وقرر خصم نصف راتبها، فأقدمت على إنهاء حياتها بعد أربعة أيام فقط من تسلم دوامها الرسمي كما روى علي سلحشور، مدير العلاقات العامة والشؤون الدولية في المجلس الطبي الإيراني (المظلة النقابية الشاملة للأطباء، وهي ثاني أكبر منظمة غير حكومية في البلاد بعد المحامين) عبر صفحته الشخصية بمنصة "إنستغرام".
ويقضي خريجو كليات الطب فترة الخدمة الإلزامية (عامين) في مناطق تحددها وزارة الصحة، كما يقول الطبيب رضا قادري، موضحاً أن فترة الخدمة تكون عامين للأطباء العاملين في مراكز المحافظات، بينما تقل إلى 13 أو 20 شهراً حال الخدمة في قرى أو مدن نائية، مضيفاً أن الخدمة الإلزامية لا تشمل المدن الكبرى وفيرة الإمكانيات الطبية، مثل طهران، ما يؤول بخريجيها من الأطباء إلى قضاء هذه الفترة في محافظات أبعد.
يعمل قادري في مدينة زنجان (326 كيلومتراً شمال غرب طهران) وقضى خدمته الإلزامية في إحدى قرى مياندوأب بمحافظة أذربيجان الغربية (762 كيلومتراً شمال غرب طهران) ويقول إن بعض الخريجين من الحاصلين على علامات متدنية يتعهدون خلال امتحان التخصصات الطبية بالخدمة في المناطق النائية مدد تصل إلى عشر سنوات ونصف لخريجي الطب البشري وسبع سنوات للاختصاصيين، بحسب قانون "العدالة التعليمية في قبول الطلاب في مراحل الدراسات التكميلية والتخصصية" المعدل لعام 2022 ما يمنحهم الأولوية في القبول، غير أنه عاد وقال إن بعضهم يلجؤون لوساطات تعيدهم مرة أخرى للخدمة بمراكز المحافظات خلافاً لتعهدهم، مضيفاً أنّ القانون كفل للأطباء المقيمين في المناطق البعيدة امتيازات كالسكن والتأثيث وعدة مزايا وظيفية، لكن الواقع مختلف، فقد يكون السكن غير مؤثث، علاوة على عدم وجود سكن من الأساس في بعض المناطق الصغيرة.
ضحايا الأوضاع المتردية في البلاد
انتحر 20 طبيباً مقيماً من مختلف التخصصات في مختلف أنحاء البلاد خلال العام الأخير، كما يقول محمد علي شاهمرادي، الأمين السابق للمجلس النقابي للأطباء المقيمين في زنجان، لـ"العربي الجديد"، لافتاً إلى أن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاع الأعداد لتصل إلى أربع وخمس حالات شهرياً، لكن بعضها لا يعلن عنها، معيداً ارتفاع معدلات الانتحار إلى ظروف العمل الصعبة، وعدم التأقلم مع الثقافات المناطقية، وشح الإمكانيات، وسوء معاملة الأطباء من قبل السلطات الصحية.
الأسباب السابقة يضيف إليها الدكتور رضا لاري بور، الناطق باسم المجلس الطبي، الأجور المتدنية ويبلغ متوسطها 200 دولار شهرياً، ولا تتناسب مع ضغط العمل، فالأطباء المقيمون يعملون بين 300 إلى 400 ساعة شهرياً، مشيراً إلى أنّ الضغط الاقتصادي والقلق من المستقبل الوظيفي والظروف الشخصية كالأزمات العائلية، تدفع الأطباء للشعور بالعجز والاكتئاب، وأخيراً الانتحار.
يعمل الطبيب المقيم 300 ساعة شهرياً ويتقاضى ما بين 200 و300 دولار
ويحجب الوضع المتردي أي أفق لدى الأطباء المقيمين بإمكانية بناء حياة عادية مستقبلاً، ووفقاً للاري بور الصعوبات التي يواجهها الأطباء الإيرانيون ليست جديدة، لكن سابقاً كانوا يتحملونها، لأن الظروف الاقتصادية كانت أفضل، وكان هناك أفق واضح أمام الطبيب المقيم الذي كان بإمكانه مثلاً شراء سيارة بيجو 206 (سعرها حالياً نحو 10 آلاف دولار) بعد عام من عمله، لكن اليوم لا يستطيع شراءها حتى بعد انتهاء سنوات التخصص الأربع، فضلاً عن انخفاض قدرة الجيل الجديد عن سابقيه في ما يخص التأقلم مع تحديات المهنة الجسدية والنفسية، المتمثلة في بعدهم عن أسرهم، وعدم تمكن معظمهم من الزواج، إما لمشكلات اقتصادية، أو بسبب ضغوط
34 % من الأطباء المقيمين يفكرون في الانتحار
تتعدد طرق الانتحار التي يقضي الأطباء بها على حياتهم، غير أن معظمهم، بحسب شاهمرادي، يتناولون جرعاً زائدة من المخدرات أو الأدوية، لافتاً النظر إلى حالتين آنيتين؛ الأولى لطبيب مقيم في جنوب إيران انتحر بحبوب مهدئة بعد تعرضه للإساءة من قبل سكان المنطقة التي يقيم فيها، والثانية لطبيبة حامل تقيم في مدينة كرمانشاه انتحرت بجرعة زائدة من "ديجوكسين" (عقار يستخدم لعلاج قصور القلب الاحتقاني والجرع الزائدة منه تؤدي للوفاة).
ويفكر 30% من الأطباء المقيمين في الانتحار، كما يقول الدكتور وحيد شريعت، رئيس جمعية الأطباء النفسيين العلمية لـ"العربي الجديد"، مستنداً إلى بحث علمي قائلاً: "إن لم تكن النسبة هذه قابلة للتعميم فهي تعكس صورة تخمينية عن الواقع الراهن"، مشيراً إلى أن بيانات المجلس الطبي الإيراني توثق انتحار 16 طبيباً اختصاصياً مقيماً خلال عام 2023 "غير أن وزارة الصحة لديها أرقام أكثر دقة، لكن للأسف هذه البيانات سرية ولا يعلن عنها".
وتتوافق النسبة السابقة مع دراسة استقصائية، بعنوان "العوامل المرتبطة بالتفكير في الانتحار بين الأطباء المقيمين في طهران خلال جائحة كوفيد-19: مسح مقطعي متعدد المراكز"، والتي أجراها فريق بحثي بقيادة الدكتورة فهيمة سعيد، أستاذة مساعدة في قسم الطب النفسي بجامعة علوم التأهيل والصحة الاجتماعية في مارس 2024، بمشاركة 353 طبيباً مقيماً، وكشفت أن 34.3% ممن جرى بحثهم لديهم ميول انتحارية.
دراسة استقصائية: 34% من الأطباء المقيمين يفكرون في الانتحار
ويبلغ عدد الأطباء المقيمين 15 ألف طبيب، ومعدلات الانتحار بينهم نحو 100 حالة لكل 100 ألف شخص أي 12.5 ضعف مثيلاتها في المجتمع، البالغة وفق بيانات الطب العدلي الرسمية 8 حالات لكل 100 ألف، ويصف شريعت هذه الزيادة بـ"الكبيرة للغاية والمقلقة"، مؤكداً أن حالة الإنكار والنفي من قبل الجهات المسؤولة "العاجزة عن تقديم حلول" تزيد الوضع سوءاً.
وتفتقر الجامعات الإيرانية للمراكز الخاصة بتقديم الاستشارة النفسية لطلاب الطب، ونشر ثقافة التكافل والعون في بيئة العمل، كما يقول الدكتور لاري بور، ودعا السلطات الصحية إلى إنشاء هذه المراكز، قائلاً: "الطبيب الثلاثيني يحتاج إلى دعم مالي من والديه، وإذا كان متزوجاً سيواجه واقعاً معيشياً أصعب"، لافتاً إلى أن وزارة الصحة لا تقدم أي تسهيلات للأطباء المقيمين، مثل السكن والقروض، بينما سابقاً كان يمكنه افتتاح عيادة وبناء حياة مرفهة، بعد أن يصبح اختصاصياً، ما يسهل من معاناة الاغتراب المحلي خلال الخدمة الإلزامية، لكن اليوم، يقول قادري، فإن كثيراً من الاختصاصيين عاجزون عن استئجار عيادات داخل مدينة مثل طهران، التي تختلف أسعارها من منطقة لأخرى (من 800 إلى ألفي دولار)، فيضطر بعضهم لفتح عيادات بأطراف العاصمة.
تراجع المنزلة الاجتماعية
يصف رئيس لجنة الرقابة بالجمعية العلمية للأطباء النفسيين (غير حكومية)، واختصاصي الأمراض النفسية والعقلية، أمير حسين جلالي ندوشن، المجتمع الطبي الإيراني بأنه في طور السقوط من فئة تحظى بمرجعية ومكانة اجتماعية خاصة إلى مرتبة أقل، فالأطباء وخاصة المقيمين باتوا على قناعة بأنهم يخسرون منزلتهم الاجتماعية والاقتصادية، ولم ينف ندوشن أن معظم شرائح المجتمع باتت أكثر عجزاً وفقراً، لكن هذا التردي الاجتماعي والاقتصادي أكثر ظهوراً وتأثيراً في الوسط الطبي.
ولا يعتبر ندوشن في إفادته لـ"العربي الجديد" انتحار الأطباء حالة فردية مرتبطة بالمنتحر فقط، ويرى أنه أمر يمس كل المجتمع، كونه يعبر عن "مأزق في ما يطمحون إليه وهبوط قدرهم مجتمعياً"، مفسراً تعبيره بقوله إنّ الطبيب كان رمز السعادة في المجتمع، ومصدر الاقتدار والطاقة للناس، ولذلك عندما ينتحر يُشعر ذلك المواطنين بوقوع اختلال جاد وكبير، ما يترك أثراً سلبياً على توقع مستقبل واضح وسعيد للجيل الجديد، سواء أراد أن يصبح طبيباً أم لا، بالتالي فإن انتحار الطبيب "قضية اجتماعية ولا ينبغي اختزالها في مشكلة شخص أو أسرة أو نقابة".
ويرد رئيس مستشفى سينا الأهلي في طهران، الدكتور أرش أنيسيان، لـ"العربي الجديد" بأن معاونية التعليم في وزارة الصحة الإيرانية تتولى مسؤولية الأطباء المقيمين، واتخذت الوزارة في العام الأخير خطوات مثل رفع جزئي للأجور من 200 إلى 250 دولاراً، وكذلك خفض ساعات العمل.
ومع ذلك يرى أنيسيان أن هذه الإجراءات "غير كافية" ولا تلبي حاجات الأطباء المقيمين، في ظل الضغوط المعيشية والنفسية و"فقدان الأمل بالمستقبل"، تحت وطأة الأجور المتدنية، لافتاً النظر إلى أن أعمار الأطباء المقيمين تتراوح بين 30 إلى 40 عاماً، وعليهم تحمل مسؤولية العائلة، لكنّ أجورهم لا تغطي حاجاتهم، وهو ما يدفعهم إلى العمل الإضافي بعد دوامهم.

*المصدر : العربي الجديد
1