بقلم : زهير ابن عياد ... 19.04.2010
استمرت هذه الهجرات من الجزيرة العربية سواء كانت قبليّة أو فرديّة أو جماعيّة وذلك لاغراض مختلفة منها أما لهروب من الثار أو البحث عن الرزق بالتجارة أو البحث عن عمل أو لغرض أُسري قرابي كاللحاق بقريب ما... كما أن هناك حركة دائمة كانت من الحجاز وخاصة سواحل البحر الأحمر إلى هذه البلاد كقبيلة بليّ التي انتشرت بكثافة في سيناء والأردن والنقب, وحملت معها موروثها الشعبي (انظر في الملاحق قبيلة الظلام كنموذج) موروث أصبح ذا ابعاد تراثيّة ما زالت شذراته قائمة بين أعقابها.
هناك سؤال يطرح نفسه لماذا اتجهت قبائل النقب القديمة إلى هنا وتركت بلاد الشام الاكثر خصوبة؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب النظر إلى التركيبة القبليّة التاريخيّة لقبائل الشام, إذ تُشير المصادر القديمة إلى أن بلاد الشام هي موطن للقحطانيّة اليمنيّة التي كانت على عداء مستمر لأهل الحجاز ونجد, ولا شكّ أن هذا الأمر استمر ولو بصورة مغايرة أُخرى إذ أنه في العصور الحديثة كانت بادية الشام لقبائل قويّة هي طيء وكلب وأولاد علي من شمّر على وجه الخصوص, وكانت تتصدّى لأي محاولة نحو اختراق وتوغّل في البادية من قِبَل البدو أيّاً كانوا, فأجبرت القبائل الضعيفة نسبيّاً على أن تتجه لصحراء النقب بحثاً عن الكلأ والماء. هذا بالإضافة إلى أن الشام كانت مراكز استعماريّة بحيث كانت القبائل تدفع الضرائب للسلطات المركزيّة, وبما أن القبائل سالفة الذكر لها وزن قويّ وتسيطر على خطوط الحج الرئيسيّة, فإنها استطاعت التعامل مع السلطات الاستعماريّة بمبدأ "هات وخذ" في حين أن القبائل الضعيفة لم تستطع حتى الوصول إلى مراكز القوى فلذلك اتجهت إلى الأطراف والمناطق الأقل عُرضةً لجباة الضرائب كصحراء النقب.
**تواجد العرب الأزلي في صحراء النقب
هذا التواجد في ظنّي أنه أتى على ثلاثة مراحل وهي:
• قبل الإسلام انتشر العرب في فلسطين كلها وملكوا بها وزاحموا أهلها, وشكّلوا لهم تواجد قويّ مهّد فيما بعد لدخول الإسلام وانتشاره, لا أدلّ على ذلك من أن لغة أهل هذه البلاد عربيّة منذ القدم. والتاريخ مليء بالشواهد الدالة على ذلك فيكفي أن الشام كانت قبل الإسلام موطن قضاعة وغسّان وعاملة. واكتفي من المصادر القديمة بشاهد واحد وهو إطلاق اسم هاشم بن عبد مناف القُرشيّ على غزّه. فما زلنا حتى اليوم نردد هذا اللقب فنقول غزّة هاشم أو غزّة الحمراء... وقصدت غزّة لأن بدو بئر السبع أُطلق عليهم قديماً "عُربان غزّة" وما زالت الأرشيفات العثمانيّة تتحدث عن بدو النقب كعربان غزّة , وهناك ارتباط جلي قديم بين غزه وبئرالسبع فسكان مدينة بئر السبع كانوا من العزازمه قبيل اسرائيل وعند دخوا اسرائيل 1948 فر اغلبهم الى غزه .
• مرحلة ما بعد التبليغ بالإسلام وذلك أثناء الفتوحات الإسلاميّة, إذ هاجرت عوائل بأكملها مع الجيش الإسلاميّ واستقرّوا في البلدان المفتوحة, وكوّنوا لهم موطأ قدم فيها والتي من ضمن هذه المواطئ بلاد النقب وأسلفنا أن عمر بن العاص سكنها فترة من الزمن واستعملنا ذلك كدليل تاريخي على وجود العرب هنا, ولا غرابة في أن القائد العربي قد اسكن بعض جنده ومجموعات عربية هنا.
• مرحلة ما بعد الفتوح, فقد استمرت الهجرة سواء عائليّة كانت أو فرديّة وذلك لأسباب عديدة, وكلّما زادت رقعة الدولة الإسلاميّة, كانت الهجرة الحجازيّة والنجديّة تتسع وتسارع في الخروج, والتاريخ مليء بذلك. وفي ظنّي أن عربان النقب الحاليين هم من أهل هذه المرحلة لما يتواتره عن أصولهم كالظّلام الذين يدّعون أنهم خرجوا في القرن الخامس عشر من الحجاز, واغلب ظني ان الانتشار العربي الحديث في بلاد النقب تشكل بوتيرة متسارعة ما بعد القرن الخامس عشر , ولا تتهاون في المرحلة السابقة إذ يدّعي الترابين أنهم خرجوا من تُربة أثناء الفتوحات الإسلاميّة.
- امتداد الموطن: تشترك قبائل البدو في الهلال الخصيب أقصد بالذات سيناء بادية الشام وصحراء النقب في أنها قبل فترة وجيزة من الزمن كانت عبارة عن قبائل رُحَّل وقبائل رعويّة تتحوّل بقطعانها مع مجاري السيل وتتوغل داخل الصحراء التي قد تشكّل لها حماية أمنيّة تتهرّب من جُباة الضرائب الأتراك وغيرهم. وأطلق من قِبَل الحكومات على هؤلاء الرحّل "العربان" هذا اللقب الذي أصبح حكراً على أهل خارج المدن والمراكز الحضاريّة... وأصبحت العربان بمفهومها تدلّ على العرب البدو... الأمر الذي يدلّنا على الاصل لهذه العربان وانهم من جيش العرب البدو ولا غرابة في اعتقاد بعض العلماء أن البدو اصل العرب.
جرى في عُرف الجغرافيون العرب تحديد بلاد جزيرة العرب على هذا النحو, تُقبل من بلاد الروم عبر الفرات ويضم داخله جميع المراكز العربية المتعارف عليها من ضمنها بلاد فلسطين. هذا التحديد يدلّ باشارة ما على أن تلك البقاع بطولها وعرضها كانت مسرحاً للعرب يجولوا في شعابها وينزلوا سهولها لا سيّما البدو الرّحّل, ومن منطلق أن جزيرة العرب تضم بلاد فلسطين على رأي جغرافيّ العرب والذين من ضمنهم ياقوت الحمويّ, فعلى هذا يكون النقب وأهله امتداد طبيعي لموطن العرب الواحد. فكيف لو اخذنا بالنظريّة الحديثة القائلة بان كلّ من يتحدّث العربيّة فهو عربيّ, فلا شكّ حينها أن بلاد العرب ستكون بقعة عظيمة لو تيسّر لها الانتماء الحقيقيّ.
بالعودة إلى الخارطة الجغرافيّة في محاولة لتتبّع خطوات هجرة بدو النقب من موطنهم الاصليّ نستطيع أن نستشف ما يلي: أن الطريق الرئيسيّة كانت انطلاقاً من ساحل البحر الأحمر وصولاً بخليج العقبة والحدود الاردنيّة الاسرائيليّة ومن هناك حدثت عملية الانتشار لبدو الاردن والنقب وسينا. وكانت ايلات والتي تُسمّى على الخارطة "رأس النقب" ملتقى الجميع, فاتجه بعض البدو من العقبة إلى البادية الاردنية ومدينة معان والتي ما زالت تُسمّى معان الحجازيّة لكثرة الحجازيين فيها, وبخصوص بدو النقب فقد توغّلوا داخل وادي العربة الذي نُسجت حوله الاساطير والخرافات, ويحوي قبور رجلات كبار من البدو كما يعتقد ظلاّم بليّ أن بعض اجدادهم قُبِروا هناك...! وكذلك نلحظ لوجود معتقدات دينيّة معيّنة عن تلك البلاد كاعتقادهم في منطقة سدوم والبحر الميت.
بالنظر إلى الخارطة نشاهد موقع يُسمّى قاع السعيديين الذي حمل اسم قبيلة السعيديين من الحويطات, في ظاهر تدلنا على نوع من الاستقرار لفترة زمنيّة ما لتلك القبيلة على تلك الحدود وقد دخل بعضهم إلى صحراء النقب. وكما اسلفنا من على طول وادي عربة ورأس النقب بدأت الهجرات تتوغل إلى صحراء النقب حتّى تمّ تشكيل هذا الانتشار الظاهر للعيان, وما زالت طريق ايلات تحوي بعض البدو الذين لم يتقدموا إلى صحراء النقب. وفي ظنّي أن بعض القبائل ولاسباب عديدة اتجهت من النقب إلى سيناء كالعزازمه والترابين وبلي. ومن هذه النتيجة استطيع القول بان بدو الاردن والنقب وسيناء قد يمتلكوا رابط ازليّ بينهم يشكل ثقافتهم وعاداتهم المتشابهة إلى حدّ بعيد ومن الدلاله على ان اهل النقب اتوا من الحجاز , انه في سنة 1948 كان خط الرجعه الوحيد لهم نحو بادية الاردن بغض النظر عن القله التي اتجهت الى قطاع غزه.
بالنظر اليوم إلى تواجد قبيلة بلي في مركزها الاصلي حيث السعودية نراها تنتشر على ساحل البحر الأحمر ونلاحظ هناك تواجد كثيف لبلي في بلدان حجازيّة كدومة الجندل وتبوك وتيماء. ولاغراض عديدة صدّرت هذه القبيلة عوائل لها "ومن خلال الخط الذي رسمناه" إلى الاردن وبادية سيناء والنقب. ولو تمعنّا في لهجة بليّ السعودية اليوم ولهجة بليّ هنا لما استطعنا أن نجد ذاك الفرق المخلّ بروح الانتساب, وكذلك الأمر مع قبيلة بني عطيّة "العطاونة" التي تشكّل وجود قويّ في تبوك اليوم, صدّرت عوائل أو اشخاص إلى هذه المنطقة كما هو الحال مع بليّ, وما هذا التصدير إلاّ لسهولة الطريق أو عدم وجود امكانيّات أُخرى, فلو صدّرت هذه القبائل عوائلها إلى الخلف لكانت نجد والحجاز البلدان القاحلة, فما كان لها إلاّ من طريق واحد هو من الساحل إلى بادية الاردن ومن هناك كانت عمليّة التوزّع ثلاثيّ المحاور للمجموعات البدويّة في سيناء والنفب وبادية الاردن.
من هذه الاستنتاجات نستيقن أن لا غرابة في ادعاء اغلبية قبائل النقب السبعة بانتسابها إلى الحجاز كوطن ام فاترابين من تُربة شرقي مكة وهي موطن لحرب والبقوم والجبارات من الانصار حيث المدينة المنورة, وقبيلة التياها يُظن أنهم من بني سليم وهلال جيران المدينة, وان اسلافهم هم اصحاب التغريبة المشهورة, والحناجرة احفاد الصحابيّ عكاشة (نلمح هنا اثر خروج هؤلاء أثناء الفتوحات الإسلاميّة) وهذه الادعاءات متواترة شفهيّاً من جيل لجيل بالإضافة إلى وجود قبائل ما زالت تحتفظ باسميتها القديمة كبني عقبة من جذام على الساحل وبلي الهروف بحيث هناك حمولة كبيرة من بلي تسمى الهروف تقطن الحجاز.
ومن ناحية أُخرى في تتبّع نوعي للهجات نجد أن قبيلة التياها التي يُعتقد أنها من الحجاز تحمل في كلامها ميزة خاصة بحيث أنها تضيف حرف الياء إلى اواخر الافعال كقول احدهم خذهي – اسمعهي... وبالنظر إلى لغة بلاد الصفرا بالحجاز من خلال التلفاز نراهم يكسرون اواخر الكلام فما سرّ هذا التقاطع العجيب... كذلك استخدام بدو النقب بشكل كثيف لحرف ما الحجازيّة كقولهم ما سمعت ما رأيت, ويستخدمون كذلك حرف الباء قبل الفعل من قُبيل ما بشوف ما بسمع... الأمر الذي لم الحظه لدى افراد رعاة من قبيلة الكعابنة إذ يلغوا حرف الباء تماشياً مع اللغة العربية الفصحى فيقولوا ما اسمع - ما كليت... ومن التشابه في حيثيّات بسيطة لغويّة بين الحجاز والنقب قلبهم الهمزة إلى حرف عين مثل سؤال – سوعال وكذلك قلب القاف إلى كاف مثل قتل – كَتَلَ... وقلب اللام إلى نون في الأسماء كمسمياتهم اسماعيل – اسماعين أو جبريل – جبرين... أو قلب النون إلى لام كقولهم غلم بدلاً من غنم, أو قلبهم الميم إلى نون كقولهم غين بدلاً من غيم... وبالرجوع إلى لهجة البدو في بدايات دخول إسرائيل نجدها تتشابه إلى حدّ بعيد مع اللهجات الحاليّة للحجاز ونجد, وبالرغم من أن لهجتنا الحاليّة طرأ عليها نوعاً من التغيير الطفيف فمثلاً يقولون مير ونحن نقول مار وكذلك حنّا ونحن نلفظها بـ أحنا... وهم يقولون ليّا ونحن نقول اذا, وقد كان البدو قديماً يستعملون ليّا كثيراً... إلاّ ترى والمتداولة اليوم بالخليج "ترى" وعندنا "أرعي" يقولون ذا الحين ونقول هالحين... هذه بعض الإشارات السريعة التي لا بدّ من بحث مستقلّ لما تفتحه علينا من ابواب عديدة حول تاريخيّة اللغة وتغيرها, بل نستطيع من خلالها كشف جذور العوائل هنا.
اودّ التذكير باني لا انفي وجود العرب البدو هُنا مذ زمان طويل موغل, فالتاريخ يقول أن قضاعة تواجدت في بلاد الشام قبل الإسلام بزمن طويل وكذلك الغساسنة وبعض عرب اليمن الذين تفرقوا بعد انهيار سدّ مأرب. لكننا لا نستطيع اللعب على ذاك الوتر لوعورته في القدم وتبدّل الاقوام بالاقوام, لكن الظاهر هو هذه الموجة الحديثة لقبائل النقب التي اعتقد أنها تشكّلت على امتداد القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر, لا سيّما أن قبائل بدوان النقب صغيرة نسبيّاً قياساً لقبائل بادية العراق والشام والجزيرة اللواتي كنَّ يستقبلن موجات هجرة دائمة.