
يعيش أهالي قطاع غزة مرحلة أكثر قسوة جراء التجويع فباتوا يتساقطون في الخيام وعلى الطرقات، وينقلون إلى المستشفيات للحصول على المحاليل التي بدأت تنفد من المستشفيات لا تتوقّف حالات الإنهاك الشديد والإغماء التي تصيب أطفالاً ونساءً، من التوافد بكثرة خلال الأيام الأخيرة، إلى قسم استقبال الطوارئ السريع في مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، مع وصول مستوى التجويع في قطاع غزة إلى حد الكارثة، ما يهدد حياة أكثر من مليوني شخص، في ظل إغلاق المعابر منذ 2 مارس/ آذار الماضي، فضلاً عن غلاء شديد في السلع الأساسية المتوفرة كالدقيق والأرز والخضار. واقعٌ جعل الأهالي يعتمدون على الحساء المعدّ من المكملات الغذائية. وأعلنت وزارة الصحة في غزة، أول من أمس، 10 وفيات جديدة بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال 24 ساعة، ما يرفع العدد الإجمالي لوفيات المجاعة إلى 111 حالة، بينهم 80 طفلاً. وبموازاة ذلك، ترتفع معدّلات الإصابة بسوء التغذية، وتتفاقم الإصابات مع اشتداد حدة الجوع. تقول والدة الطفلة شام قديح (عامان) وغيرها من مئات الأطفال، الذين بدأت صورهم تنتشر بسبب وجوههم الشاحبة وعيونهم الغائرة وظهور عظام أقفاصهم الصدرية وأقدامهم: "منذ الشهر الثاني بعد الولادة، بدأت حالتها تسوء، ولم يتجاوز وزنها 4.5 كيلوغرامات علماً أنه يفترض أن يكون 9 كيلوغرامات. تعاني تضخماً في الكبد، وأخبرني الأطباء أن علاجها خارج غزة، وبقاءها فيها يهدد حياتها". من جهتها، وصلت منال هنية إلى قسم الطوارئ في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة في حالة هزال شديدة ووجه شاحب وجسد نحيف، يسندها زوجها الذي وضع رأسها على المقعد داخل قسم الاستقبال. وعمدت الطواقم الطبية إلى مدّها بمحلول مغذٍّ على الفور نظراً إلى صعوبة حالتها، هي التي لم تتناول وجبة طعام منذ ثلاثة أيام. وقول زوجها صلاح لـ "العربي الجديد": "بشكل عام، لا يوجد طعام بشكل فعلي منذ شهرين. كما أن أسعار ما هو متوفر مرتفع ولا نستطيع تأمينه، والمعابر مغلقة، وكانت النتيجة أن سقطت داخل الخيمة. وبصعوبة استطعنا نقلها إلى المستشفى. أطفال وشيوخ أيضاً يسقطون من شدة الجوع وانعدام السكريات". يضيف: "خلال الأيام الأخيرة، بتنا نغلي المغذيات مع المياه ونشربها كأنها حساء. نحن عائلة منعدمة الدخل نزحت إلى رمال شاطئ بحر مدينة غزة، ولا تصلنا أية مساعدة". وحتى يتمكن هنية وعائلته من تناول وجبة طعام واحدة غير مشبعة، يحتاج إلى دفع 50 دولاراً. ويسأل: "من أين سيأتي الدخل؟. الحياة منعدمة. أين الضمائر الحية؟ نحن في غزة نستصرخهم لأننا نمر بحالة جوع لم يمر بها أي تاريخ بشري، لا في الحرب العالمية الأولى ولا في الثانية. يموت منا أطفال ونساء نتيجة الجوع". إلى ذلك، كان الطفل أنس غنيم نائماً خلال تلقيه وحدة المحلول الثالثة، هو الذي يعاني هزالاً شديداً. تقول أمه لـ "العربي الجديد": "فجأة، لم يتمكن من الوقوف على قدميه بسبب تلف الأدوية المثبطة للمناعة. نعيش في خيمة حيث الحرارة شديدة، فضلاً عن أن المياه التي نشربها ملوثة. تبين أن لديه فقر دم. كما أنه مصاب بمرض السكري. لم يأكل شيئاً منذ عدة أيام. وبصعوبة تمكنت من شراء حبة صبار واحدة له". وللجوع تأثير كبير على المرضى والحوامل بدرجة كبيرة. على الرغم من أن دعاء مراد حامل منذ شهر ونصف الشهر، إلا أن حالة الوهن التي تظهرها وكأنها تعيش مخاض الولادة. وصلت إلى قسم الطوارئ في حالة انهيار شديد غير قادرة على الحديث، يرافقها زوجها وأمها. يقول زوجها لـ "العربي الجديد"، بينما كان الأطباء يستعدون لإعطائها المحلول: "منذ شهر ونصف الشهر، لا تأكل، ونحن نتنقل بها من مستشفى إلى آخر. لا علاج ولا طعام صحي. المتوفر الآن هو أقراص الفلافل والدقة ((خليط من الزعتر والسمسم والتوابل الجافة)، وهذا الطعام ممنوع عليها". من جهة أخرى، كانت الطفلة غزل أبو غبن تأكل قطعة خبز بينما تتلقى جرعة من أحد المحاليل. تقول أمها لـ "العربي الجديد": "لم يعد لدينا ما نأكله منذ ثلاثة أيام. تعطل جهاز الإنسولين بسبب انقطاع الكهرباء. وبسبب طحن الدقة التي كانت تأكله، أصيبت بحموضة في الدم (حموضة الدم، أو ما يعرف بالحماض، هي حالة طبية تحدث عندما يصبح الدم أكثر حمضية من الطبيعي). وبصعوبة وبمساعدة شقيقها، جئت بها إلى المستشفى من منطقة السودانية شمال مدينة غزة. قطعة الخبز التي كانت تأكلها حصلنا عليها من ناس". كانت الطفلة سيلينا أبو حطب ممددة على أحد المقاعد في حالة إنهاك شديد. لم تتحمل وخزها بالإبرة لسحب عينة الدم قبل تقديم محلول لها. ومنذ أربعة أيام، تعاني هزالاً شديداً جراء قلة الطعام، وحموضة في الدم. ومنذ بداية الحرب لم تحصل على الدواء المناسب الذي كان يصلها من الأراضي المحتلة عام 48، وتمنع من تناول الدقة والبقوليات، وهذه هي المواد المتوفرة في غزة حالياً وبأسعار مرتفعة، كما يقول والدها لـ "العربي الجديد"، الذي يقف عاجزاً عن شراء الخضار لطفلته، نتيجة عدم توفره أو ارتفاع سعره. ويقول الطبيب خضر حسنين، الذي أشرف على علاج الطفلة، لـ "العربي الجديد"، إن "سيلينا تعاني قيئاً مستمراً وضعفاً وهزالاً وخمولاً، وتبين أنها تعاني سوء تغذية حادّاً. وصلت إلى قسم الطوارئ متعبة ومجهدة بشكل كامل، وقدمت لها المحاليل اللازمة لتبقى على قيد الحياة"، مشيراً إلى "نقص في محاليل الغلوكوز والمحلول الملحي اللازم للمرضى الجوعى". ويؤكد حسنين لـ "العربي الجديد" أن "مئات الحالات تصل إلى القسم يومياً بسبب المجاعة، إذ تسقط في الخيام أو في الشوارع". يضيف: "نتعامل معها ونحن مجهدون ومتعبون جراء الجوع ونقص السوائل، ونشكو هذا الضعف". أما في ما يخص المصابين، فسيؤدي عدم التغذية إلى تأخر التئام الجروح، وهذا حال يوسف عودة بدوي الذي كان موجوداً في قسم الطوارئ منذ نحو شهر، وأدى سوء التغذية إلى فقدانه نحو 30 كيلوغراماً من وزنه الذي كان 90 كيلوغراماً قبل الإصابة. يقول والده الذي استطاع شراء أوقية عنب لنجله: "اليوم، استطعت شراء شيء له. غداً، لن يكون لدي مقدرة على شراء أي شيء بسبب ارتفاع الأسعار. وزنه انخفض، وجرحه لم يلتئم، ولا نستطيع إطعامه سوى القرع والكوسى، والخبز غير موجود".
وتؤثر حدة المجاعة على عمل الطواقم الطبية المنهكة، فما يشعر به المرضى يعيشه من يقوم بعلاجهم من أطباء وممرضين، الذين تعرضوا للإغماء نتيجة الجوع. على مدى 24 ساعة، عمل الطبيب مصطفى هنا في قسم الطوارئ في مجمع الشفاء الطبي، تحت تأثير الجوع وضغط العمل واستقبال مصابي وشهداء مجزرة الطحين شمال غزة، الأحد الماضي. يقول لـ "العربي الجديد": "الطاقة الموجودة لدينا في التعامل مع المرضى أقل مما كانت عليه سابقاً. خلال فترة معينة من النهار، أفقد القدرة على التعامل مع أي حالة جديدة، علماً أننا نستقبل أعداداً مهولة قد تفوق قدرة أي مركز صحي متقدم. فما بالك بمستشفى يعمل بأقل من إمكانياته السابقة؟ خلال الفترة الأخيرة، كانت وزارة الصحة عاجزة عن توفير وجبة طعام واحدة لطواقمها خلال 24 ساعة، ولا شيء يشترى من الأسواق. يوم المجزرة، لم أستطع البقاء في المستشفى لفترة إضافية بعد انتهاء مناوبتي الساعة الثانية عشرة ظهراً جراء الإنهاك". بدوره، يقول رئيس قسم الطوارئ في مجمع الشفاء الطبي، معتز حرارة، إن "الكثير من الطواقم الطبية أغمي عليها ولم تعد تستطيع القدوم إلى المستشفى بسبب الهزال الشديد، وهناك من فقد ثلث أو ربع وزنه. الطاقم الصباحي يعمل ساعة أو ساعتين ويشعر بالإجهاد السريع والصداع والرعشة، في وقت نستقبل الكثير من المصابين بأمراض حموضة الدم. سابقاً، كات تتوافد حالة أو حالتان يومياً. اليوم، تصلنا عشر حالات يومياً ونضطر لإدخالها إلى المستشفى، ما يؤثر على المنظومة الصحية في ظل عدم وجود مستهلكات وأدوية. كما أن المحاليل على وشك النفاد". ويوضح حرارة لـ "العربي الجديد" أنه يتردد يومياً على قسم العلاج السريع في الطوارئ نحو 500 حالة، 10% منهم بسبب الجوع وسوء التغذية.!!
*المصدر : العربي الجديد
