
**كتب بهاء طباسي..مع انبلاج فجر الخميس، كانت عائلة سامي بركات تستيقظ على وقع أصوات انفجارات متلاحقة تهز جدران بيتها في حي الرمال. لم يكن في وسع الأم سوى أن تحتضن أطفالها الثلاثة بينما يفتح الأب نافذة مكسورة ليتأكد إن كان الحي ما زال قائماً. «شعرت أن السماء كلها تسقط فوقنا» تقول الأم بصوت مرتجف، بينما يشير الأب إلى الدخان المتصاعد من الجهة الغربية حيث تدفق رتل من الدبابات. في لحظة واحدة تبددت أوهام الأمان، وبات واضحًا أن المدينة تُطوَّق من كل الجهات.
فجر يبتلع المدينة
حينها بدأت الحيرة القاسية: هل يفرّون نحو الممرات التي أعلن عنها الاحتلال عبر مكبرات الصوت، أم يبقون بين جدران آيلة للسقوط؟ «لم يعد أمامنا سوى اختيار نوع الموت» يضيف سامي خلال حديثه لـ«القدس العربي»، مترددًا بين المخاطرة بالسير في طرق قد تكون مصائد أو البقاء تحت نيران القصف. الأطفال بعيونهم الزائغة لم يفهموا سوى أن حقيبة صغيرة جُهزت على عجل، وأن جدتهم أُجلست على كرسي بلاستيكي استعداداً للرحيل إن قُدر.يصف الجيران المشهد أنه «فجر يبتلع المدينة، إذ تحولت الشوارع الضيقة إلى ممرات للجنود والجرافات، فيما تعالت صرخات الاستغاثة من المنازل المجاورة التي طالتها القذائف. لم يعد بمقدور أحد الاتصال بالإسعاف بعد أن انقطعت الشبكات، وصارت أخبار المصابين تنتقل همسًا من باب إلى باب.هكذا بدأ يوم الخميس في غزة: مدينة محاصرة من كل الجهات، سكانها عالقون بين الركام والمجهول، وعائلات كعائلة سامي تجد نفسها مضطرة لأن تختار بين فرار محفوف بالخطر أو بقاء لا يقل خطورة. كان ذلك التمهيد ليوم وصفه الأهالي أنه «الأشد قسوة منذ اندلاع الحرب».
مشهد التوغل
مع ساعات الفجر الأولى دفعت قوات الاحتلال بموجة جديدة من الآليات العسكرية نحو قلب مدينة غزة عبر ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول جاء من الشمال عبر شارع صلاح الدين الممتد نحو حي الزيتون، حيث شوهدت عشرات الدبابات ترافقها جرافات عسكرية وهي تشق الطرقات المهدمة وتفتح مسالك جديدة وسط الأحياء السكنية. أما المحور الثاني، فانطلق من الغرب عبر شارع الرشيد الساحلي، حيث تقدمت القوات صوب منطقة الميناء والكرمل لتطويق الأحياء الساحلية المكتظة بالنازحين. فيما تمثل المحور الثالث بالتوغل من الشرق عبر حي الشجاعية نحو مفترق الصناعة، في محاولة للالتقاء مع القوات المتقدمة من الداخل وإطباق الحصار على وسط المدينة.تزامن التوغل مع قصف مدفعي وجوي متواصل، استهدف مفترقات الطرق والمنازل القريبة، ما جعل الأحياء تتحول إلى ساحات مفتوحة للموت، وأجبر العائلات على الفرار العشوائي دون قدرة على حمل أبسط حاجياتها. «كأن المدينة تضيق علينا حتى تختنق» هكذا وصف مؤمن عبد الرزاق أحد السكان المشهد.
ممرات الإخلاء
في خضم التوغل، أعلنت قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت والمنشورات الورقية عن «ممرات آمنة» لإخلاء السكان، لكنها لم تكن سوى طرق محفوفة بالخطر. الممر الأول كان عبر شارع الثلاثيني باتجاه الجنوب، حيث تدفق آلاف المدنيين، لكنهم تعرضوا لقصف متقطع عند نقاط متقدمة، ما زرع الرعب وأدى إلى عودة كثيرين أدراجهم. الممر الثاني كان عبر مفترق الشفاء باتجاه حي الرمال الجنوبي، غير أن الاشتباكات العنيفة حالت دون المرور الآمن، فيما بدا الممر الثالث عند شارع الرشيد الساحلي باتجاه دير البلح، وكأنه فخ جديد حيث استهدفت الغارات محيط الطريق.شهادات الأهالي تؤكد أن «الطريق إلى النجاة لم يعد موجودًا»، وأن الممرات المعلنة أشبه بطرق موت، يتردد الناس في سلوكها خشية أن تنقلب إلى كمائن. كثير من العائلات فضلت البقاء في منازلها المدمرة جزئيًا، معتبرة أن الموت تحت الركام أهون من الموت في العراء.
المدينة تحت الحصار
الخميس بدت غزة مطوقة من كل الجهات، فالقوات الإسرائيلية أحكمت قبضتها على الشمال والشرق والغرب، فيما المنافذ نحو الجنوب تخضع لقصف مستمر. عشرات الأحياء قطعت أوصالها، وانقطعت عنها الإمدادات الإنسانية والطبية، بينما المستشفيات المحاصرة عاجزة عن استقبال مزيد من الجرحى.
«نحن نعيش داخل قفص كبير يطبق علينا شيئاً فشيئاً» تقول منى عبدالعال إحدى النازحات من حي الرمال خلال حديثنا القصير معنا. أصوات الانفجارات لا تفارق سماء غزة، والدخان الكثيف يحجب الرؤية، بينما آلاف العائلات تبيت ليلها على الأرصفة والطرقات بعد أن فقدت الملاجئ والمدارس أي قدرة على استيعاب المزيد.
الدبابات شوهدت في أحيائها… ومقتل 4 عسكريين في جيش الاحتلال
على أحد أرصفة حي الرمال، جلست أمينة الحلاق تمسك بيد طفليها وتنتظر خبراً يبدد الخوف المتصاعد. بيتها في حي الشجاعية لم يعد صالحاً للسكن بعد أن انهارت واجهته الأمامية جراء القصف، لكنها أصرت على البقاء داخله حتى اللحظة الأخيرة. «كل شيء ضاع.. الصور والذكريات وحتى الفراش الذي كنا ننام عليه صار تحت الركام» تقول أمينة وهي تنظر نحو أطفالها الذين يلتصقون بها كمن يبحث عن مأوى داخل صدرها.مع الإعلان عن ممرات الإخلاء، حملت ما تبقى من حاجياتها وقررت الخروج. لكنها ما إن وصلت إلى شارع الثلاثيني حتى وجدت نفسها وسط جموع هائلة من المدنيين المتدافعين. فجأة دوى انفجار قريب، وانتشرت رائحة البارود، فعمّ الهلع وتراجع كثيرون إلى الخلف. «شعرت أن الموت يحيط بنا من كل صوب» تضيف أمينة، مؤكدة لـ»القدس العربي» أن العودة إلى منزلها المدمر كانت أقل قسوة من الاستمرار في طريق محفوف بالقصف.في طريق العودة، وجدت عائلات أخرى اتخذت القرار ذاته: البقاء حيث هم. نساء جلسن قرب جدران مهدمة، ورجال يحاولون إصلاح شبابيك مخلعة لستر أطفالهم أسرهم. لم يكن أحد يجرؤ على المجازفة أكثر. «كنا نظن أن الممرات ستنقذنا، لكنها صارت كابوساً إضافياً» تروي أمينة.اليوم، تعيش مع أطفالها بين الركام، تشعل نارًا صغيرة لطهي بعض الحبوب التي تسلمتها من جيران. تقول: «لم يعد لدينا أمل كبير.. لكن مجرد البقاء على قيد الحياة في هذا الجحيم هو شكل من أشكال المقاومة».
مريض على الطريق
من الجهة الغربية للمدينة، وتحديداً قرب شارع الرشيد الساحلي، كان خالد عابد يحاول نقل والده المريض إلى مكان أكثر أمناً. والده المصاب بجلطة دماغية يرقد على سرير معدني، وقد استعان خالد بجيرانه لدفعه وسط الأزقة. «لم نعد نسمع سوى أصوات المدافع وهي تقترب شيئاً فشيئاً» يقول خالد بينما يحاول وصف لحظة الرعب تلك.وصل خالد وعائلته إلى الممر الساحلي الذي أُعلن عنه باتجاه دير البلح، لكنه وجد الطريق محاطاً بألسنة لهب ودخان كثيف. سيارات محترقة مرمية على جانبي الطريق، وصراخ جرحى يملأ المكان. «كان المشهد أقرب إلى نهاية العالم» يروي، مضيفًا لـ»القدس العربي» أنه تراجع فورًا بعدما شاهد قصفاً يستهدف بناية مجاورة لمكان مرورهم.عاد خالد بوالده إلى بيت متهالك على أطراف حي الرمال، حيث يقطن اليوم مع عشرات النازحين الآخرين. الغرفة التي يأوي إليها بالكاد تتسع لأسرته، فيما الروائح الكريهة المنبعثة من جثث لم تُدفن بعد تضاعف المعاناة. «نحن نعيش بين الموتى» يختصر خالد تجربته المريرة.رغم ذلك، لا يزال يحاول توفير بعض الطعام والشراب لوالده المريض، ويبحث عن أدوية مسكنة علّها تخفف عنه. «أحلم فقط أن أنام ليلة واحدة بلا قصف، وأن يرى والدي يوماً جديدًا» يقول بصوت يختلط بين الرجاء واليأس.
هروب محفوف بالخطر
في قلب حي الشجاعية، عايش يوسف الديب إحدى أصعب اللحظات عندما شقت الدبابات طريقها عبر الأزقة الضيقة. «كنا نسمع أصوات الجنود تصرخ بلغات غريبة، وأصوات الجرافات وهي تقتلع الجدران» يروي لـ»القدس العربي». لم يكن أمامه سوى حمل والدته المسنة على كتفيه ومحاولة الابتعاد نحو مناطق أقل خطرًا.عند مفترق الصناعة، فوجئ يوسف باشتباكات عنيفة بين مقاتلين من المقاومة وقوات الاحتلال. الرصاص ينهال من كل اتجاه، والقذائف تسقط بلا توقف. «تجمدت في مكاني، لم أعد أميز بين اتجاه الحياة والموت»، يقول. كثير من العائلات اضطرت للانبطاح على الأرض ساعات طويلة، قبل أن تتمكن من الزحف بعيداً عن ساحة المواجهة.بعد ساعات من الرعب، وجد يوسف ملجأً مؤقتاً في مدرسة شبه مدمرة. هناك، تقاسمت عائلته غرفة واحدة مع خمس عائلات أخرى. الجدران مثقوبة، والسقف بلا نوافذ، لكنهم اعتبروه مكاناً أفضل من البقاء في الشارع. «على الأقل هنا، يمكننا أن نغلق الباب ونشعر أننا ما زلنا بشرا» يصف يوسف.اليوم، يعيش يوسف على أمل أن يتمكن من العثور على ممر آمن حقيقي، لكنه يدرك أن الخيارات شبه معدومة. «الحصار يخنقنا، والموت يلاحقنا، ومع ذلك نحن نتمسك ببعضنا كأننا آخر من تبقى في هذه المدينة» يقول بصوت متعب.
نزوح متكرر
في حي الرمال الجنوبي، عاشت نوال عصفور تجربة النزوح القسري للمرة الثالثة خلال الحرب. بيتها الأول في بيت حانون دُمّر منذ أشهر، ومنزلها الثاني في جباليا انهار فوق محتوياته قبل أسابيع. «كلما حاولنا بناء حياة جديدة نجد أنفسنا نعود إلى نقطة الصفر» تقول نوال بمرارة.في صباح الخميس، حاولت نوال مع جيرانها المرور عبر مفترق الشفاء، لكن اشتباكات عنيفة حالت دون تقدمهم. القنابل الدخانية غطت المكان، والأطفال أصيبوا بحالات اختناق. تروي خلال حديثها لـ»القدس العربي»: «كنت أجر ابنتي من يدها بينما تسعل بقوة وتبكي، لم أعرف إن كنت أنقذها أم أقتلها بالاقتراب من ذلك الممر».تراجعت نوال سريعاً إلى منزل قريب نصف مدمَّر، حيث قضت الليل مع عشرات النساء والأطفال. الأرضية الإسمنتية غطتها البطاطين القديمة، فيما الزوايا امتلأت ببراميل ماء ملوثة بالكاد تكفي للشرب. «صرنا نقتات على ما تبقى من خبز يابس وبعض التمر» تضيف نوال.رغم كل ذلك، تصر على التشبث بالحياة. «نحن لسنا أرقاماً كما يريدون، نحن أرواح تنبض وذاكرة ستبقى»، تقول بحزم. وتضيف أن أملها الوحيد هو أن تنتهي الحرب قبل أن تفقد أطفالها كما فقدت بيتها.وفي موازاة مشاهد الهروب والرعب في الشوارع، كانت المستشفى تخوض معركة أخرى لا تقل قسوة، معركة البقاء أمام سيل لا ينتهي من الجرحى والشهداء
انهيار المستشفيات
منظمة الصحة العالمية أطلقت تحذيرات غير مسبوقة أن المستشفيات في مدينة غزة باتت «على حافة الانهيار الكامل»، في ظل النقص الحاد في الأدوية ووحدات الدم. ووفق وزارة الصحة الفلسطينية، سُجل خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية 79 شهيدًا على الأقل، غالبيتهم من المدنيين، فيما يعاني الجرحى من إصابات بالغة، بينها حروق من الدرجات العليا.الأطباء يواجهون واقعاً لا يمكن وصفه، حيث يعالجون المرضى في الممرات وعلى الأرض بعد امتلاء الأسرّة، بينما تعجز غرف العمليات عن استيعاب الكم الهائل من الحالات. ومن بين الضحايا، عشرات الأطفال الذين لم يجدوا سريراً ولا دواءً.الأوضاع تتفاقم أكثر مع انقطاع الوقود الذي أدى إلى توقف مولدات الكهرباء في بعض المرافق، ما يهدد حياة مئات المرضى في العناية المكثفة وحضانات الأطفال. ومع كل لحظة ينقطع فيها التيار، تتضاعف المخاوف من مجازر صامتة خلف الجدران.تؤكد مصادر طبية لـ»القدس العربي» أن «المدينة تعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة»، حيث يُنقل بعض المصابين على عربات يدوية أو تُحمل جثامين الشهداء على الأكتاف، في مشهد يختصر مأساة غزة اليوم.
أبو سلمية: الإصابات تتدفق باستمرار
في مستشفى الشفاء، المشفى الوحيد الذي يعمل في مدينة غزة، يتحدث المدير الدكتور محمد أبو سلمية، عن مشاهد مؤلمة يعيشها الطاقم الطبي. يقول لـ»القدس العربي»: «لم نعد نفرق بين يوم وليلة. الحالات تتدفق بلا توقف، وغالبية الإصابات خطيرة. نحن نعمل بأدوات محدودة، وبعض العمليات تُجرى في طرقات المستشفى».يصف أبو سلمية لحظة استقبال مجموعة من الأطفال المصابين: «جاءنا أربعة أطفال دفعة واحدة، جميعهم بحروق من الدرجة الرابعة. لم نجد ما يكفي من المراهم أو الأدوية المسكنة لعلاجهم».ويتابع: «نحن نخشى أن يتحول المستشفى نفسه إلى هدف، فقد سبق ودمره جيش الاحتلال بالكامل العام الماضي». في النهاية يختم أبو سلمية بعبارات مؤلمة: «ما يحدث ليس فقط كارثة إنسانية، بل وصمة عار على جبين العالم. لقد تُركنا وحدنا في مواجهة هذا الجحيم».
*المصدر : القدس العربي
