
الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب على غزة وتبادل الأسرى هو أمر مفرح، خاصة لأهالي الأسرى من الجانبين. لكنه فرحٌ ممزوج بالأسى بالنسبة للفلسطينيين عمومًا، ولأهالي غزة خصوصًا. كان من الممكن وقف الحرب في أيامها الأولى، بعد الردّ الإسرائيلي الشديد على هجوم حماس والفصائل الأخرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لكن إسرائيل قررت شنّ حرب إبادة استمرت سنتين.ربما الأدقّ وصف الاتفاق بين إسرائيل وحماس بأنه اتفاق وقف إطلاق نار وتبادل أسرى، لا أكثر. رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أُرغم على هذا الاتفاق بعد ضغوط مارسها عليه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. لم يأبه نتنياهو، يومًا، بمطالب العالم بوقف الحرب.ذا توقفت الحرب الآن، فإن إسرائيل لم تحقق هدفها الأساسي المُعلن، وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حماس. كثيرون في إسرائيل، وخصوصًا قادة أجهزتها الأمنية، يؤكدون أنه ليس بالإمكان القضاء التام على المقاومة، بينما يعتقد نتنياهو، حسب تصريحاته، أن بالإمكان تنفيذ ذلك.رحّب الجيش الإسرائيلي بالاتفاق، وأعلن أنه "بدأ استعدادات عملياتية من أجل تنفيذ الاتفاق"، بما يشمل إعادة انتشار قواته في حالة استنفار على 53% من مساحة قطاع غزة. ترحيب الجيش، وفقًا لتصريحات رئيس أركانه إيال زامير في الأسابيع الماضية، جاء بهدف إنعاش القوات وتعبئة مخازن الجيش مجددًا بالذخيرة. زامير كرّر مرارًا أن الخطوة الأولى يجب أن تكون تحرير الأسرى الإسرائيليين، ومن ثم استئناف الحرب على غزة.موقف الجيش هو موقف الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين، الذين لا يبدون اكتراثًا بالإبادة والدمار في غزة، ولا يعارضون استئناف الحرب بعد تحرير الأسرى الإسرائيليين. وهذا هو موقف رؤساء أحزاب المعارضة أيضًا. أي أن هناك إجماعًا داخل إسرائيل على الحرب، وهو مدعوم أميركيًا.في المقابل، لا يوجد في إسرائيل تأييد واسع للسلام، خصوصًا مع الفلسطينيين. وخلال العقد ونصف العقد الماضي، توقّف حتى الحديث عن "عملية سلمية"، رغم أنها عبارة مضللة ومخادعة أصلًا. بالنسبة لإسرائيل، السلام يكون مع دول الخليج فقط.اليمين الإسرائيلي الفاشي، المُمثَّل بحزبي الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، هدّد بالانسحاب من الحكومة إذا وافق نتنياهو على وقف الحرب، لكن تعقيباتهم أمس على الاتفاق، رغم انتقادهم له، أوضحت أنهم لن ينسحبوا، لأن الحرب ستُستأنف على الأرجح لاحقًا.بعد إعلان ترامب والوسطاء عن التوصل إلى الاتفاق، ليل الأربعاء – الخميس، لم تتوقف الحرب. فقد شنّ الجيش الإسرائيلي، أمس، هجمات جوية ومدفعية في العديد من مناطق القطاع، واستهدف غزيين كانوا يسعون للحصول على طعام في مراكز توزيع المساعدات. كما حذّر الجيش السكان من العودة إلى شمال القطاع، وأعلن أن "المنطقة الواقعة شمال وادي غزة لا تزال تعتبر منطقة قتال خطيرة"، وأن قواته "لا تزال تطوّق مدينة غزة، حيث تعتبر العودة إليها في غاية الخطورة".ينصّ الاتفاق على إطلاق سراح نحو 2000 أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية، بينهم قرابة 1700 أسير اعتُقلوا خلال الحرب (وليس بينهم مقاتلون)، إضافة إلى 250 أسيرًا من ذوي الأحكام المؤبدة، لا يشملون مروان البرغوثي (القيادي في حركة فتح)، ولا أحمد سعدات (الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، بعد أن رفضت إسرائيل الإفراج عنهما. وتوجد مخاوف من أن تقوم إسرائيل باغتيال بعض الأسرى المحرَّرين من أصحاب الأحكام المؤبدة.الاتفاق نفسه يوحي باستئناف العدوان على غزة؛ إذ ينصّ البند السادس على أنه "بمجرد عودة جميع الرهائن، فإن أعضاء حماس الذين يلتزمون التعايش السلمي ويسلمون أسلحتهم سيستفيدون من عفو عام. وسيُسمح لمن يرغب منهم في مغادرة غزة بالمغادرة الآمنة إلى بلدان المقصد".لكن، ماذا عن أعضاء حماس الذين لن يسلموا سلاحهم ولن يغادروا؟ هل ستعتقلهم إسرائيل أم تغتالهم؟ إسرائيل لا تعرف كل مقاتلي حماس. هل ستعتقل أو تغتال غزيين بشكل عشوائي؟ أم ستقتل مدنيين وتزعم أنهم مقاتلون في حماس؟ينص الاتفاق أيضًا على أن "تلتزم حماس والفصائل الأخرى بعدم أداء أي دور في حوكمة غزة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وسيتم تدمير كل البنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة، ولن يُعاد بناؤها. وستُنفّذ عملية لنزع السلاح تحت إشراف مراقبين مستقلين تشمل التعطيل الدائم للأسلحة".لكن حماس أعلنت أنها ترفض إلقاء السلاح. فكيف سيُنفَّذ هذا البند؟ من المؤكد أن إسرائيل ستتمسك به وتستخدمه ذريعة لشن هجمات لاحقة، كما تفعل اليوم في لبنان بذريعة استهداف مخازن أسلحة ومقاتلين لحزب الله، رغم توقيعها اتفاق وقف إطلاق نار قبل عام مع لبنان. إسرائيل، ببساطة، لا تلتزم بالاتفاقات التي توقعها مع الفلسطينيين، بل تخرقها باستمرار (انظر "اتفاقيات أوسلو").في المرحلة الحالية، يبدو أن الاتفاق لن يؤثر على حكومة نتنياهو، التي ستبقى متماسكة حتى الانتخابات المقبلة. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نتنياهو قد لا يبقى في الحكم، وأن الحكومة المقبلة ستشكلها الأحزاب الصهيونية في المعارضة، مع حزب رئيس الحكومة الأسبق نفتالي بينيت، وحزب غادي آيزنكوت إذا تجاوز نسبة الحسم.لكن أي حكومة مقبلة، لن تختلف في سياستها تجاه الفلسطينيين عن حكومة نتنياهو، من حيث تفضيل الحرب على السلام. فهذه عقيدة راسخة في إسرائيل، حيث يوجد إجماع ضد إقامة دولة فلسطينية أو حتى الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.الاحتلال بالنسبة للإسرائيليين أمر راسخ، وهم لا ينوون التنازل عنه. بل إن الحكومة الحالية تعلن أنها ستعمّقه أكثر، وتنفّذ مخطط الضمّ في الضفة الغربية. والاتفاق الحالي، المبني على "خطة ترامب"، لا يتطرّق إلى ذلك إطلاقًا. وربما يوافق ترامب لاحقًا على ضمّ "الكتل الاستيطانية" لإسرائيل، وهي خطوة تحظى بإجماع إسرائيلي واسع، والأهم من ذلك أنها باتت تُنفّذ عمليًا على الأرض.خلال الحرب على غزة طوال العامين الماضيين، قُتل وأُصيب قرابة ربع مليون فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من المدنيين؛ 67 ألف شهيد، و170 ألف جريح، إلى جانب آلاف الشهداء الذين لم تُدرج أسماؤهم بعد في الحصيلة الرسمية لوزارة الصحة في غزة. كما دُمّر القطاع بشكل شبه كامل.هذا هو "الإنجاز" الإسرائيلي في الحرب. وهجوم 7 أكتوبر لا يبرر بأي حال من الأحوال هذه الجرائم، ولا هذه الوحشية. وليس هذا رأي الفلسطينيين وحدهم، بل رأي معظم دول العالم، بما فيها غالبية الأميركيين. لكن هذا لا يهم إسرائيل، التي تعتبر أن قتل الفلسطينيين حقٌّ مشروع لها.!!
*وكالات
