بعيداً عن سياسة السلطان عبد الحميد المترددة تجاه الاستيطان اليهودي المتسارع في فلسطين خلال حقبة حكمه الطويل من 1876 إلى 1909، وحيث تضاعف عدد اليهود ثلاث مرات عن ما كان عليه قبل حكمه، وبعيداً عن لقاءاته الخمسة مع تيودور هرتزل وإبقائه خطوط التواصل مع الزعيم الصهيوني مفتوحة وساخنة، بما كرس قناعات هذا الأخير بأن الباب الموارب الذي تركه السلطان له وللتوسع اليهودي في فلسطين هو في الواقع أعظم مما توقع، وبعيداً عن سياسات الارتشاء التي اتبعها موظفوه في القدس وفلسطين ومرروا عبرها أراضي فلسطينية كثيرة إلى المنظمات اليهودية، تخبرنا السيرة الحقيقية للسلطان عن فترة حكم بائسة اتصفت باستبداد فردي وبسياسة خارجية نزقة ومترددة ومتخاذلة، لم يحافظ بسببها على الإمبراطورية التي ورثها عن أجداده، بل سرع من انهيارها بشكل أدهش حتى أعداءه.
تسلم عبد الحميد الحكم سنة 1876 من خلال مؤامرة تعاون فيها مع جماعة «العثمانيين الجدد» ضد شقيقه السلطان مراد الخامس. كان العثمانيون الجدد مع الإصلاح الدستوري والانتخابات البرلمانية وتعديل مسار الإمبراطورية من الحكم الفردي إلى الحكم البرلماني، بأمل تفادي الانهيار الذي بدت ملامحه في الأفق. بعد أن تسلم العرش بقليل، بطش عبد الحميد بالجماعة العثمانية ونفى أحد أهم رموزها، مدحت باشا، الذي كان قد عينه «الوزير الأكبر» بعيد نجاح المؤامرة على أخيه. وتحلل السلطان بعد ذلك من كل تعهداته والتزاماته بتبني دستور جديد وإصلاحات برلمانية واحترام الإرادة العامة، وعوضاً عن ذلك كله انغلق على نفسه وأنشأ حكماً استبدادياً فردياً قائماً على القهر والشك في الجميع. وعبر الحكم الفردي المطلق شل السلطان الجديد أية قوة داخل الإمبراطورية تنبض بالتغيير ومحاولة الإنقاذ. وفضلا عن اتصافه بغرابة الأطوار، والانطواء على نفسه، والشك في كل مَن هم حوله، فقد اتسم حكمه بالمركزية التامة. وعلى يديه تحول قصر يلدز حيث انتقل إلى قلعة من آلاف الحراس الذين لا هم لهم سوى ضمان منع حدوث أي مؤامرة على السلطان، الذي كان يعتقد أن الجميع يتآمرون عليه في الداخل والخارج. وكان أن طلب من حكام المناطق التجسس على معارضيه ومراقبتهم عن كثب. ثم جاءته هدية تكنولوجية من حيث لا يحتسب، وهي «التلغراف»، والتي ما أن عرف فائدتها حتى عمم استخدامها في كل أراضي الإمبراطورية، وعبرها استطاع التحكم في كل أمراء المناطق وجردهم عملياً من سلطاتهم المحلية. ويذكر المؤرخون كيف تحول الاختراع العلمي المبهر إلى أداة عززت من الاستبداد الحميدي وكرست المركزية المدمرة. ومن نافلة القول إن تبني الإمبراطورية العثمانية للتلغراف كان ذا فوائد أخرى كثيرة، لكن من المثير للتهكم اعتبار ذلك أحد فضائل السلطان ومن دون الالتفات إلى الغرض الرئيسي خلف الخطوة برمتها، خاصة وأنها تأتي من سلطان متشكك في كل ما هو جديد وتثير ريبته الاستخدامات الحديثة في السياسة والمعارضة.
والواقع أن دخول التلغراف في عهد السلطان عبد الحميد واستخدامه المكثف من قبل الإدارة المركزية في متابعة شؤون الولايات، يقوض أحد الدفوعات المتكررة عن سياسة السلطان إزاء فلسطين وتسلل أراضيها إلى المنظمات اليهودية. فهنا، يقول المدافعون إن ما كان يحدث في فلسطين كان يتم على أيدي الولاة الفاسدين وبعيداً عن عيون السلطان ومراقبته وعلى الضد من سياسته. بيد أن ما يضعف هذه الحجة هو أن السلطان كان متابعاً لأدق التفاصيل خاصة في فلسطين وتحديداً كل ما له علاقة بأراضيها. بل إن السلطان نفسه كان أكبر مالك لأراضي فلسطين والتي عرفت باسم «الجفتلك»، وقد اشتراها من ملاكها الفلسطينيين أو تمت مصادرتها بسبب عدم قدرة أصحابها على دفع الضرائب. والكارثة الكبرى أنه بعد انهيار الدولة العثمانية انتهت تلك الأراضي إلى المنظمات اليهودية، لأنه لم يكن لها مالك فلسطيني، وهذا موضوع يحتاج إلى مقالات مطولة خاصة به.
وفي العهد الحميدي تسارعت وتيرة انهيار الإمبراطورية لأسباب لها علاقة بسياسته، ولأسباب سابقة على عهده ومتوارثة من عهود من سبقوه. لقد ورث عبد الحميد إمبراطورية منهكة لكن كان حتى ذلك الوقت ثمة احتمالات للإنقاذ. بيد أن سياسته أكدت مسار الانهيار عوضاً أن تجترح مساراً للإنقاذ. لم يستثمر عبد الحميد في أراضي وثروات الإمبراطورية وأراضيها ولم يحاول تعبئة طاقات شعوبها، بل استمر في سياسة من سبقه في فرض الضرائب على المزارعين وأصحاب الملكيات بشكل دمر زراعتهم وإنتاجهم. وإلى ذلك استمر في سياسة الاستدانة من الأوروبيين وتكبيل نفسه بشروطها، والتنازل تدريجياً عن سيادة اسطنبول على أراضيها، وعن صناعة القرار، مما اضطره أخيراً للموافقة على شروط الدائنين الأوروبيين على حساب السيادة العثمانية.
وخضوعاً لتلك الشروط، وفي عام 1881، أصدر عبدالحميد «مرسوم محرم» والذي نص على تشكيل «مجلس الدين العام»، بالتنسيق مع الدائنين الأوروبيين. كانت المهمة الأساسية للمجلس ضمان سداد السلطنة لديونها بشكل منتظم. وقد سلم السلطان عبر ذلك المرسوم الشؤون المالية للسلطنة للأوروبيين. وحرص عندما أصدر المرسوم المذكور على أن يبدو المجلس وكأنه يقدم خدمات للسلطنة ولا ينتقص من سيادتها لكن منذ إنشاء المجلس وقع اقتصاد السلطنة عملياً تحت الوصاية الأوروبية ونفوذ المستثمرين الأوروبيين. تشكل المجلس من ممثلي بنوك فرنسية وبريطانية وألمانية وهنغارية وإيطالية، تحكموا بشكل مطلق في سياسات وقرارات المجلس، بينما كان ممثلو السلطنة لا يملكون حق التصويت على القرارات، بل مجرد إبداء الرأي. ويذكرنا «مرسوم محرم» بتصريح السلطان لهرتزل عندما رفض لفظياً أي صفقة يتنازل فيها عن فلسطين رسمياً، بينما جوهر سياسته إزاء فلسطين كان تفريطياً وتخاذلياً. نرى هنا الخيط المشترك في السياسة الحميدية وهو اتباع سياسة معينة على أرض الواقع تمليها الظروف والضغوط والإكراهات، مع وجود تصريحات لفظية قوية يكون هدفها تحسين صورة السلطان أمام التاريخ ليس إلا.
السلطان عبدالحميد والبطولة الزائفة!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 23.04.2014