هناك قلق غذائي مُزمن لدى الناس الذين مرّوا بالحروب، الرجال يدمنون على نشرات الأخبار، بينما تلتزم الأمهات والزوجات بإعداد الطعام للأسرة، حتى حين يبدو للرجل أنه لا يوجد ما يؤكل في البيت.
لا تخلو بيوت هؤلاء النسوة من قلائد الخضار المجفّفة، بامية وفلفل ولوبية، أوراق العنب المكبوس أو المجمد، العدس والبُرغل للمجدّرة والمخبوصة (شقيقة المجدرة وهي بالأرز والعدس وأكثر طراوة، قريبة الكُشري المصري)، العدس مع الشومر أو بقوليات أخرى في الربيع، البرغل ناعم وخشن للكبة أو مع بندورة ونعنع والكبة نفسها أنواع، منها النيّئة مع اللحم (أيام راحة البال)، ومنها كُرات محشوة بالبصل واللحم ومطبوخة باللبن، ومنها ما يُقلى ويشوى، أما المحشوة بورق البصل الأخضر والحمص فهذه يسمونها «كُبّة حيلة»، وهذا يعني أنها نوع من الاحتيال على الكبة الأصلية، أما الكرات الصغيرة منها باللبن وغير المحشوة بشيء فيسميها أهل عكا (رصاص عُزرَيين).
ولا بد في هذا المقام من ذِكر الحمص طيّب الذكر وهو ثروة حقيقية في أيام الشدة، يعدّونه مدمّسا مع الطحينة أو مطهوا في أكلة (المفتول) التي يسميها المغاربة (كسكسي) وهذه أكلة شتائية تدفئ القلب، أو (المنزلة) التي يسميها المصريون (مصقعة) وغيرها الكثير (القضامة) مثلا.
هناك تناغم قديم منذ الفراعنة الأوائل بين الفول والبصل، لا تستطيع مقاومة البصل إذا حضر الفول أخضر أو مدمّسا، إلا إذا كنت على موعد غرامي مع كيليوباترا، فتتعفف عنه رغم الإغراء الشديد. الملوخية الطازجة مع الفلفل الحار والثوم، الملوخية يسميها أهل مثلّث فلسطين (سَرّاقة الخبز) لأنك تضطر لتناول خبز كثير معها، خصوصا بغياب الأرز،لا يوجد بيت فلسطيني، وخصوصا عند القرويين، يخلو من الملوخية اليابسة أو المجمدة في الثلاجة لتطبخ فيما بعد مع الفول المجروش ويسمونها في فلسطين (بَصارة)، الملوخية وأصلها (مُلوكية) لأنها كانت طعام الملوك فهي تقوي الباه على ذمة الرواة.
طبعا، هناك أيضا ما وراء المطبخ من مواد المونة الأخرى، السكر والطحين والزيت والبصل (البعلي الذي يصمد فترات طويلة)، الخيار والباذنجان واللفت والفلفل والزيتون والقرنبيط والملفوف والجزر المكبوس وأنواع كثيرة يَجْهلها معظم الرجال من البهارات في علب وزجاجات بأحجام مختلفة، النساء يعرفنها من لونها، بينما أنت تتخبط بين الهال والزنجبيل والكركم والقرفة والشومر والكتان حتى تهتدي إلى الكمّون.
وكيف أنسى رب البندورة البيتي، يحضرن في أوج الموسم كمية كبيرة من البندورة شديدة النضوج يغسلنها ثم يعصرنها بالأكف، ثم تتم تصفيتها في مصفاة من الألومنيوم، ثم تنشر على السطوح على أطباق كبيرة (سدر) من الألومينوم، حتى تجف مع إضافة ملحٍ كثير، يحفظنه في حافظات زجاجية محكمة الإغلاق، والأطفال يشتهون هذه الأكلة فتدهن على الخبز الطازج الخارج للتو من الموقد، يأكلونها وهم يلعبون، ويفضلونها على طبخة اليوم مهما كانت شهية.
عرفت نساء مررن في محنة اللجوء والتشرد وهن طفلات، وهذا سيرافقهن طيلة العمر حتى الرحيل، ولهذا فالمونة جزء من حياتهن، فهن لا يثقن بـ(السوبر ماركت)، عشن مع أسرهن شهورا في العراء، عشن على نوع واحد من الطعام استمر أسابيع من الزيت والزعتر والخبز،عرفن الإمساك الشديد الذي يستمر أياما ويصيب المهجّرين وأطفالهم، وهؤلاء محظوظون مقارنة بمن يصابون بالإسهال، ولهذا إذا تذمّر واحد من أبنائهن من الطبخة التي أعدّتها وقال «لا أحبّها»، ترد عليه «إن التذمّر من النعمة كفر وحرام».
لأجلهن أحلم بوطن عربي يكون الطبخ مركز اهتمامه، أحلم بأن يكون الطبخ فنا وإبداعا له احترامه، وليس مجرّد (حشوة بطن)، أن يأكل العربي متى شاء وأي طعام يشتهي، أن لا يأكل شيئا ما مضطرا لعدم وجود بدائل، وإذا قضم الأعشاب أو أوراق الشجر، أن يفعل هذا للتجريب والدلع ونتيجة شبع، وليس درءا للموت جوعا. أتمنى أن تجرى مسابقات في الطبخ، تنتظر الجماهير نتائجها بتلهف وجدل وترقّب، أن تُستهل نشرات الأخبار بـ»آخر تطورات الطبخ العربي»، الجامعة العربية تتوجه بشكوى ضد إسرائيل التي سرقت طعام الفلسطينيين ونسبته لتراثها! المناضلة خالدة جرار تطالب أبو مازن بالذهاب إلى محكمة الطهو الدولية! مؤتمر الطهاة العرب يبحث في أصل المنسف والكبسة والمقلوبة. يهود من جنوب أفريقيا يعتذرون للفلسطينيين على سرقة الصهيونية الممنهجة للمطبخ الفلسطيني! ويكيليكس يكشف: «وزير داخلية عربي كان يطبخ خصومه السياسيين»!
وأن تقام معارض ومهرجانات لمبدعي الطعام في المراكز والقصور الثقافية، وأن تكون وزارة للطبخ مثل أي وزارة أخرى، وأن تتمحور خطب المساجد والكنائس حول علاقة المؤمنين بالطبخ وأنواعه، أن يدخل الطبخ كمادة دراسية إلزامية، كذلك كمادة لا بد منها في برامج الأحزاب السياسية، أن تستضيف اليمن أو سوريا مثلا مباريات كأس العالم في الطبخ. تظاهرات واحتفالات في يوم البندورة، أو البطيخ، «القصة الكاملة للبامية واللوبية»، معارض للأرز واللحم واللبن والمطيّبات كالزنجبيل والزعفران (الأصلي) في ذكرى الاستقلال وتأسيس الجيوش والممالك والجمهوريات والتحرير والوحدة والانطلاقة وسقوط القدس ومعركة الكرامة والخروج من الأندلس وعيد الجلوس وعيد العمال العالمي ويوم المرأة والثورة التصحيحية، والثورة (التطعيجية) وطبعا في عيد الأم.
أحلم بتماثيل في الساحات العامة لربّات البيوت المُبدعات، وأن يُكتب على قواعد النصب التذكارية «هنا ترقد شهيدة حفنة العدس الأخيرة»، «يرقد هنا مكتشف البروتين البديل من أوراق الشجر، العلامة مخترع تحلية التراب بدون سُكّر»!.
أن تقام معارض صور وأفلام تسجيلية ووثائقية عن «إبداع الطعام في الحروب»، «الأنفاس الطيبة من وراء المحاربين»، «أن لا تأكل وأن لا تموت جوعا» أن تقدّم أطروحات للألقاب الجامعية حول البرغل وتجلياته الألف» و»حوار مع المختص بشؤون الخبيزة والعائلة البقولية والقثائيات، «فوائد الجَزَر والرمان حقيقة أم خيال»، «سري جدا»، الفتوش على موائد الماسونية»، «الباذنجان المعاكس» حسنا» لماذا لا يستضيف فيصل القاسم النساء اللاتي يجترحن وجبة من لا شيء! ولماذا تستضيف الفضائيات جنرالات وألوية متقاعدين وتهمل المشيرات والعميدات في إعداد الطعام خلال الحروب! أحلم بيوم يكون فيه أعداد الطباخين المَهَرة مع شهادات اختصاص أكثر من أعداد سجناء الرأي والسياسة والجرحى والشهداء.
أتمنى أن يأتي يوم ويحضر العجوز الذي رفع لافتة من مخيم اليرموك «نحن جوعانين» إلى محكمة الجنايات الدولية، وأن تأتي شهيدات الحفنة الأخيرة من العدس أو السمسم أو كوب الزيت! كي يشهدن بوجوه القتلة والسفاحين ومجوّعي الناس وسارقي أمنهم الغذائي، وأن يرتجف صاحب أكبر لقب عسكري من سيّدة تحمل بيدها المغرفة فوق حلة الطعام وتلوّح فيها مهددة بزعزعة أمن العالم.
شهيدة حفنة العدس الأخيرة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 14.05.2015