بداية، أود التنويه بعيداً عن العنتريات المفضوحة والمزايدات الخاوية ، بأن ما جاء في سياق مقالتي السابقة التي كانت تحمل عنوان "صائب عريقات وحال السياسة"، بأنه لم يكن فيها تهجماً بأي حال من الأحوال على منظمة التحرير الفلسطينية، أو الإنتقاص من مكانتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ولكن يجب توضيح أن ذلك هو من المُسَلَمَات في إطار الواقع القائم وهذا يندرج في السياق الرسمي فقط، أما في الإطار الشعبي العام فهناك الكثير ما يقال حوله الذي نأمل بأن يصحح مساره قريباً! .
لذلك، وددت أن أعلق الجرس، لأقول بأن غالبية الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات باتت تعاني من الأدوات الفاسدة التي ظنت بأن هذا الصرح، وهذه المؤسسة العملاقة، أصبحت محتكرة لديهم، وهي جزءٌ من ممتلكاتهم الخاصة، يفعلون فيها ما يشاءون وكيفما يشاءون، ويميزون بين أبناء الوطن الواحد في الداخل والشتات كما يرغبون!، وهي التي من المفترض أنها تحمل الهم الفلسطيني لكل أبناء الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجدهم، بعيداً عن التمييز على أساس جغرافيٍ أو دينيٍ أو حتى فكري!، وهذا ما وددت قوله عندما تطرقت إلى هذا الأمر ، حيث كنت أشير إلى حالة التذمر القصوى التي لم تعد تُحْتَمَل ، وبات الجميع من أبناء الشعب الفلسطيني يتحدثون عنها في مجالسهم ولقاءاتهم العائلية، سواء قبلنا بذلك أم لم نقبل، فهذه هي الحقيقة! ، وأنه لابد من تهذيب ثقافة القائمين عليها ليؤمنوا بأنهم أمناء على الحق ويمثلون حالات عابرة وليسوا أصحاب مُلْكْ يمنحون ويمنعون كيفما يشاءون!.
أما بالنسبة لما يتعلق بعنوان مقالتي هذه، والتي أود الحديث فيها عن ما جاء على لسان د. صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن هناك رؤوساء ورؤوساء وزراء أبلغوه بأن الرئيس محمود عباس هو حكيم وعقل العرب!، وهذا في حد ذاته كلام جميل نفتخر به كفلسطينيين، بأن رئيس الشعب الفلسطيني يصل إلى هذه المرحلة من الثقة عند الأشقاء العرب وغيرهم حتى باتوا يرون فيه هذه المكانة المرموقة.
خارجياً، لا أختلف مع هذا الوصف الذي عبر عنه د. عريقات الطامح ، لا بل أجد في الرئيس محمود عباس وأنا من رآه مرتين عن قرب وشاهدت بأم عيني مكانته التي يحظى بها عند زعماء بعض الدول ، الأولى كانت في عام 2010 في الهند ورأيت في الرجل ثقة بالنفس وكاريزما ونشاط عالي المستوى أسعد قلبي، وأضفى على نفسي ثقة عالية بأن عنوان الشعب الفلسطيني له مكانته الخاصة التي تُحْتَرَم، والثانية كانت في عام 2012 عندما أُعْلِنَ عن الإعتراف بدولة فلسطين كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، حيث كان الرجل نجماً ساطعاً بكل معنى الكلمة، يزهو بفخر وهو يختال متنقلاً بثقة بالنفس بين الضيوف، وبعدها إنتقل إلى السفارة التركية في نيويورك ليشاركهم إحتفالهم بالعيد الوطني التركي في حينه وكان بالفعل نجماً مميزاً بين الحضور من رجالات الدول الأخرى!، بالرغم من أنني شعرت حينها أن لغة الجسد كانت تقول شئ ما غير ما هو ظاهر، فتمنيت حينها لو أن يتم ترجمة ما حصل من إنجاز بشكل عملي على أرض الواقع حتى تظهر المصداقية كاملةً بكل جوانبها بشكل ملموس لدى أبناء الشعب الفلسطيني الذين يمثلون العنصر الأهم في هذه المعادلة!.
كما أنني لا أستطيع أن أنكر بأن الرجل لا زال يحظى بإحترام دولي رفيع ويتم إستقباله في معظم زياراته بشكل محترم ولافت، جعلت منه رقماً مهماً على الساحة الدولية، وكان مثالٌ على ذلك إستقباله المميز في القصر الجمهوري التركي الجديد العام الماضي ، وقدرته على توفيق التنقاضات بين بعض الأطراف الدولية كما حصل بالتوفيق بين الموقف الروسي والأوكراني والفرنسي، وهي مواقف معروف عنها بأنها غير متآلفة أو متقاربة ، ولكنها توافقت خلال التصويت في مجلس الأمن لصالح القرار 2334 المتعلق بإدانة الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة .
كما أنه شارك بإسم فلسطين في حل بعض المشكلات الأمنية من خلال جهاز المخابرات العامة، الذي قام بعملية نوعية حملت إسم "رد الجميل" في عام 2015، وتمخض عنها إطلاق سراح رجلي دين سويديين كانت تأسرهم جبهة النصرة في سوريا ، وهذا إن كان يدل على شئ فإنه كان يدل بلا شك على تمتعه بالحكمة وبُعْد النظر بالتعاطي مع المواقف الإنسانية التي تبني جسوراً متينة على الساحة الخارجية مع دول العالم.
لكن للأسف الشديد هذا جاء على حساب الساحة الداخلية، حيث كانت كل تلك النجاحات تتناقض مع آلام وأوجاع أبناء الشعب الفلسطيني ، الذي نهشه الفساد والحصار والقمع وإنتهاك كرامته وتعميق الخصومات بين أبنائه وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وإحتكار فرص الأعمال والتعيينات، وإقصاء الخصوم، مما جعل الساحة الداخلية تعيش حالة صراع وتغلي بشكل دائم!.
هذا عوضاً عن أن الشارع الفلسطيني لم يتلمس نجاحات وطنية حقيقية ذات أبعاد وطنية راسخة ، بل صودرت الأراضي ، وإنتُهِكَت الحرمات المقدسة، وتعمقت الأزمات أكثر وتفكك الوطن واصبح أمر إنقسامه أكثر تعقيداً، وأصبح المشبوه والفاسد والذي ضُبِطَ في فراش الخيانة عارياً، في المقدمة والوطني الشريف جائع وحائر!.
هذا الأمر لم يعطي الرئيس محمود عباس حظاً من إستخدام الحكمة الحقيقية التي كنا نتمنى أن يتمتع بها بالفعل لا القول ، وذلك لإحتواء هذه الأزمات المتراكمة ومنع تفاقمها ، وباتت الساحة الفلسطينية الداخلية قبل نهاية عام 2016 في حالة غليان غير مسبوقة، وكانت تحمل مؤشرات خطيرة للغاية على منظومته بمجملها، ولكنه بلا شك إستطاع بذكاء أن يتجاوز تلك المحنة، ويقلب الأمر لصالحه حتى اللحظة!، حيث أنه منذ تلك اللحظة بدأ يمارس بل شك أعمالاً أكثر حكمة كانت أهم ثمارها هو إجتماع اللجنة التحضيرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة اللبنانية بيروت ، التي توصلت إلى توصيات بضرورة إنجاز إنتخابات موحدة بتصويت مباشر من الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وذلك لإنتخاب ممثليهم في المجلس الوطني الفلسطيني القادم ، كما أن هناك توجه لإعلان حكومة وحدة وطنية عقب الإنتهاء من إنعقاد مؤتمر باريس الدولي ولقاء موسكو المرتقب.
يبدو أن الحظوظ لازمت الرئيس محمود عباس، حيث أنه حافظ طوال الوقت على علاقات متينة مع الجانب الروسي، الذي سجل مكاسب سياسية لصالحه في الفترة الأخيرة، على مستوى تحرير حلب السورية، كما أنه اصبح الجانب الدولي الذي بات يحظى بأهمية على ما يبدو ستؤهله لأن يحظى بعلاقات مهمة ومميزة مع الإدارة الأمريكية الجديدة ، مما يعني أن ذلك قد ينعكس بالإيجاب على القضية الفلسطينية من ناحية ومن ناحية أخرى على مكانة الرئيس محمود عباس في بقائه بالسلطة لحين ما ستؤول عنه الإنتخابات العامة إن عُقِدَت ولم يترشح فيها كما كان يقول دائماً .
كل ذلك على إفتراض أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب سيتخذ خطوات إيجابية بما يتوافق مع علاقاته مع حليفه الجديد في المنطقة وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن لا يعني ذلك بأن هذا سيمثل ضمانة مطلقة لأن يحظى الرئيس محمود عباس الذي تربطه علاقات صداقة مميزة مع بوتن ، بعلاقات جيدة أو طبيعية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث أن هناك مؤشرات تقول بأن صرامة الرئيس المنتخب دونالد ترامب ستكون مذهلة وحاسمة ومفاجئة في التعاطي مع المشهد الذي يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط برمته، وأنه ليس من النوع الذي تخونه ذاكرته في تناسي العلاقات بين الأطراف الأخرى وطبيعتها !.
لذك كنت أتمنى أن تكون حكمة الرئيس محمود عباس نابعة في الأساس من مصدر القوة، وهو المصدر الذي يمنح الشرعية وهو صوت الشعب الذي كان يحتاج رئيسه إلى جواره، وكان يحتاجه بأن يتحسس آلامه وأوجاعه ، وكان يحتاجه أيضاَ بأن يكون الرئيس الذي يردع كل من تسول له نفسه بأن يغلق بيتاً أو يتجرأ على حق أو كرامة أحد من أبناء شعبه.
كنت أتمنى أيضاً أن تكون حكمة الرئيس على المستوى الدولي أكثر بلاغة في الإستعداد لإنتهاز الفرص ، فلم لا تكون على سبيل المثال ، أن تتعلق هذه الحكمة بالتحضير لإنتهاز الفرص جيداً بعيداً عن مباحثات اللقاءات البروتوكولية فقط ، وهاهي فرصة تجميع سبعين دولة في باريس خلال عقد المؤتمر الدولي للسلام المزمع عقده يوم 15 يناير الجاري ، حتى يقول لهذه الدول نحن كفلسطينيين عشاق حياة ، وليس بيننا وبين أصحاب أي ديانة مشكلة ولكننا ضد إحتلال أراضينا، ونحن لسنا ضد أمنهم وعيشهم بأمن وأمان وسلام، لا بل نحن لسنا ضد نقل سفارات أي دولة تشاء ذلك من تل أبيب إلى القدس الغربية كيفما شاءت، إن كان ذلك يساعد في عملية السلام ولا يستفز الشعوب ويثيرها ، ولكن بالمقابل هناك شرط فلسطيني لابد من أن يؤخذ بعين الإعتبار وأن يحظى بالضمانة الفورية لتنفيذه ، وهو يرتكز على أن تعترف هذه الدول فوراً بدولة فلسطين مستقلة، وأن تُفْتَح لهذه الدول سفارات في القدس الشرقية عاصمة هذه الدولة الموعودة كإحترام منها لمبدأ العدالة ومنطق السلام القائم على إحترام تطلعات وحقوق الشعوب الحية التي تريد أن تعيش بأمن وأمان وسلام وتحترم القانون الدولي إن كان هذا المجتمع الدولي بالفعل يريد ترسيخ السلام بين شعوب تستحق السلام وليس مستحيلاً أن تعيش فيما بينها بأمن وأمان وسلام.
حينها ستكون الحكمة الحقيقية ساطعة في سماء الوطن وغيره ، وهي التي تستطيع أن تخلق حالة حراك شجاعة وتأثير يضع المسميات بأسمائها وفي مكانها الطبيعي وسياقها المثالي ، حيث أن هذا الطرح يجيئ في سياق فرضية أن الجهود الدولية جميعها هي مخلصة وتبحث عن تجسيد شراكة حقيقية في عملية سلام منشودة مبنية على ترسيخ ثقافة قبول الأخر لبناء الأمل لأجيال قادمة وليس إسقاطهم أو البحثٍ عن تعميق الكراهية والعداء فيما بينهم!.
أما البحث في خزعبلات محكمة هنا وهناك مع اليقين على عدم توفر شروط القدرة على التقدم رسمياً بطلب البدء في التحقيق، على أن يبقى الأمر لا يعدو سوى تلويح بتقديم طلب بين الحين والأخر ليضاف إلى ملفات أرشيف المحكمة كغيره من الملفات الأخرى ، أو التذاكي بتسويق أمور فارغة المضمون وبعيدة التحقيق والمنال!، فكل هذه الأمور باتت مفضوحة لأنها لا تعدو سوى إستهلاك للوقت وضياع لأمالِ شعب يستحق الحياة وإهدارٍ لمقدارته وإستباحةٍ لأحلامه ومتاجرةٍ بآلامه وأوجاعه وفقدانٍ لجوهرِ معنى الحكمة إن كان هناك حاجة لفهم حقيقيٍ لحكمة مرادة ويتطلع الشعب الفلسطيني لليوم الذي يتلمسها بالفعل على أرض الواقع من رئيسه ، وأن لا يبقى يراها بأنها لا تعدو سوى رغبةً بالتمتع بالحصول على نعتٍ أو صفةٍ لتضيف بريستيجاً يحافظ على الهيبة والنفوذ ويحقق مصالح ضيقة ليس إلا !.
نهفة على الهامش : تذكرت أثناء كتابتي هذه المقالة ذلك الصديق الذي كتب لصديق أخر كان يرأس مؤسسة ، رداً على تكريمه في أحد الإحتفالات قائلاً له فيما معناه ، لقد أدرت هذه المؤسسة بحكمة منقطعة النظير طوال فترة توليك المسؤولية عنها، حتى أصبح نهجك هو بوصلة لتحرير فلسطين يُحْتَذَى به ، ومن سوء حظ صديقي هذا أنه أرسل لي نسخة عما كتبه ، فرددت عليه قائلاً : نعم بعد كل هذا التشرذم القائم بين أعضاء هذه المؤسسة والذي رسخه صديقنا رئيسها، والخصومات التي عمقها، فهو لذلك يستحق بجدارة أن يْلَقْب بالحكيم!، كما أنه أصبح يمثل بالفعل حالة غير مسبوقة يجب أن تُعْتَمَد في المناهج الدراسية في جميع المراحل الإبتدائية والإعدادية والثانوية، لا بل يجب تُدَرَس في أرقى الجامعات العالمية حتى تستفيد الأجيال القادمة من هذه الحكمة التي ستوصل الشعب الفلسطيني ليس لتحرير فلسطين التي أَحْتْلت عام 1967 فقط لا بل كل فلسطين التاريخية!...... وصلت رسالتي تلك بجوهرها لصديقي هذا وذاك وغيرهما من اصحاب الخزعبلات والعنتريات الفارغة والعابرة، بأن يكفوا عن تسويق هذا الفكر الرخيص وعن الإستخفاف بعقول الناس وأن يضعوا الأمور بمسمياتها حتى لا يقعوا مع صديق أخر لربما يطالب بإحالة متبني تلك الفكرة إلى مستشفى الحالات النفسية للتأكد من سلامة وصحة قواه العقلية!.
حكمة الرئيس!!
بقلم : م. زهير الشاعر ... 12.01.2017
كاتب ومحلل سياسي- فلسطين