في ذكرى رحيله العاشرة، أتوجه إلى صديقي الكبير شفيق الحوت( أبوهادر) بالسؤال المؤرّق المحزن الذي جعلته عنوانا لكلمتي عنه في الذكرى العاشرة لرحيله، وهو وأنا نعرف جوابه المفجع، ولكنه سؤال استنكاري لكل ما أودى بنا إلى هذا الحال!
لعله يطّل علينا محزونا مثقلاً بالهّم، هو المتفائل غالبا، وفي عينيه سؤال لمن أخذونا إلى هذا الخسران المبين: ألم أنهاكم عن طريق من يسيره تائه وضائع لا محالة، فمع مفاوضين يهودا صهاينة لن تفوزوا نشئ، ولذا استقلت قبل الإعلان عن ما توصلتم إليه في ظلمات أوسلو من وراء شعبنا، ودون مشورة مع أخوة ورفاق الطريق، ولذا أذكّركم باستقالتي ومسبباتها، والتي قدمتها بتاريخ 22 آب أغسطس 1993: لم يعد سرّا على أحد ما تعاني منه منظمة التحرير الفلسطينية من أزمات سياسية ومالية وتنظيمية، تتحمل مسؤوليتها القيادة الراهنة ، أو ما يسمّى باللجنة التنفيذية.
ولقد بات واجبا وطنيا ملحا، على جميع الفعاليات والتنظيمات والفصائل الفلسطينية العاملة في إطار المنظمة العمل على دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في أقرب وقت ممكن إلى جلسة استثنائية تُطرح فيها كل هذه الأزمات، تمهيدا لإيجاد المخارج المناسبة لها، ثم تطرح الثقة في القيادة الراهنة بعد البحث في أدائها العام سياسيا وماليا وتنظيميا. وباعتباري عضوا في اللجنة التنفيذية الراهنة، أعترف بأنه لم يعد في استطاعتي، وكذلك غيري من الزملاء، أن نتحمل مسؤولية قرارات تصدر باسمنا دون علم لنا بها، مما أدى إلى تفريغ هذه المؤسسة من صلاحياتها، تماما كما حدث لغيرها من مؤسسات المنظمة، ولا سيما مجلس الصندوق القومي الذي لم ينعقد منذ أكثر من سنتين، والذي تم تغييب رئيسه، فهو - منذ اختياره – لم يحضر سوى جلسة أو اثنتين من جلسات اللجنة التنفيذية، ولم يُدلّ بكلمة واحدة حول الانهيار المالي المزعوم الذي أصاب المنظمة، مهددا بتدمير مصائر الآلاف من العاملين في المنظمة من مدنيين وعسكريين، وصولا إلى عشرات الآلاف من أسر الشهداء والمعتقلين والمعوقين الذين بذلوا دماءهم في سبيل فلسطين( من الوطن إلى المنفى: ص 465-466).
مبكرا تنبه شفيق الحوت لما يدبّر في (العتمة) من تنظيرات ممن يوصفون بالمستشارين: إن ما نسمعه ممن يسمون بالمستشارين، من تصريحات التذاكي ومحاولات الخلط بين ما هو ستراتيجي وما هو تكتيكي، لم يعد ينطلي على أحد، فبتنا مثل سائر أبناء شعبنا نستشعر مخاطر السياسة المغامرة واللامبالية التي تخوضها القيادة باسم اللجنة التنفيذية. (نفس المصدر ص 466).
أرجو التوقف عند هذه الفقرة، وتأملها، والتمعن فيها، ونحن في هذا الحال الذي أُخذت إليه قضيتنا، وانكشاف الدور الأمريكي، المكشوف قبل أوسلو تاريخيا بالانحياز للمشروع الصهيوني، والتحايل الصهيوني على مفاوضين فلسطينيين ثبت أنهم يجهلون هذا العدو ومخططاته، وطبيعة مشروعه الاحتلالي ( لكل) فلسطين وتحويل أهلها إلى ( سُكّان) في معازل يقيمون على أرض( إسرائيل) ويمنحون (حكما ذاتيا) لأنفسهم!!
يعلل المناضل الكبير شفيق الحوت، أحد بناة منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها، مع الأستاذ المؤسس أحمد الشقيري، وممثل المنظمة في لبنان..أسباب استقالته، ويحدد العلل والأمراض المتفشية في مؤسسات المنظمة، ويضيف لها أخطر ما دفعه للاستقالة: لقد قبلنا، في مجلسنا الوطني الدخول في المفاوضات ،بعد تحديد ثوابتنا وخطوطنا الحمر، لكننا نرى اليوم أن هذه الثوابت مهددة في جوهرها، وأننا قد تجاوزنا الخطوط الحمر.( ص466).
لقد قامت منظمة التحرير لتبقى، وستبقى إلى أن تحقق الأهداف التي قامت من أجلها بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وشطب ملف اللجوء الفلسطيني بعودة جميع اللاجئين إلى وطنهم السيّد الحر. ( 466)
في البداية أعلن أبوهادر تعليق عضويته في اللجنة التنفيذية، لكنه ثبّت استقالته نهائيا ببيان معلن بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر1993.
في تونس نصح ( أبوهادر)، وقبل حفل التوقيع على أوسلو في حدائق البيت البيض بواشنطن..أباعمّار بأن يترك أمر المفاوضات لوفد من ( الداخل)، ويستأجر لنفسه كوخا في منطقة نائية في تونس، ويتابع نتائج المفاوضات، أو في أي قطر عربي، ويبقى زعيما لشعبه، ورئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية..وهكذا تتحوّل المغامرة إلى مناورة، تنجو بنفسك، وبالمنظمة، وبالقضية، في حال فشل الاتفاقية...
يضيف: لم أطل عليه ، وتركته ينعم برهط من المنافقين الذين كانوا يبنون له ( هونغ كونغ) و( سنغافورة) فوق رمال القطاع وهضاب الضفة.(ص 471).
أمّا أن أباهادر حزين في ذكرى رحيله العاشرة، وهو يطل على المشهد الفلسطيني في الضفة، والقدس، والقطاع المحاصر..وهو يرى جرّافات الاحتلال تهدم بيوت الفلسطينيين وتشردهم، والألوف في السجون الصهيونية، وفداحة الخسائر التي جرّها أوسلو على شعبنا، فلأنه نصح، ورفع الصوت محذرا مما يُدبّر لقضيتنا وشعبنا، ولم يصغ المهرولون لنصائحه، وتحذيراته، كما لم يتوقفوا ليستمعوا لنصائح آخرين كثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني.
أما أن مثله لا ييأس، فذلك يعود لثقته بشعبه، وإيمانه بشرفاء أمته، ورهانه على الأنقياء المتمتعين برؤية ستراتيجية للصراع، ومعرفة عميقة بطبيعة الصهيونية والكيان الصهيوني...
لقد استشهدت بمقاطع طويلة من كتاب أبي هادر( من الوطن إلى المنفى)، وهو سيرة حياته الغنية كمناضل، وكصحفي كبير، وكخطيب، وكقومي عربي ناصري تعرض عدّة مرات للاغتيال وأصيب في قدمه في إحداها..والكتاب سيرة كفاح شعبنا الفلسطيني منذ عقود ما بعد النكبة.
وكم بودي لو أن الفلسطينيين المعنيين بمعرفة نشوء منظمة التحرير الفلسطينية، والمعارك التي خاضها شعبنا، وطبيعة عدونا الصهيوني، ومن يعنيهم معالجة الأمراض – كالأنانية الفردية، والعصبوية الضيقة الأفق - التي أخذت قضيتنا إلى المأزق الخانق الذي تعيشه ونعيشه راهنا...
رحمه الله أبا هادر، وكل الشكر له لأنه ترك لنا مذكراته الغنية المعنونة ( بين الوطن والمنفى)، والصادرة عام 2007 ، والتي أحتفظ بها موقعة بخطّ يده، وبإهداء أعتز به: مناضل صلب. وفنان مبدع.. هو، صديقي الذي أعتز بصداقته.. إنه رشاد أبوشاور، مع كل المودة والحب...
لروحك الرحمة والسلام يا أبا هادر، أنت العربي الفلسطيني، القومي، الناصري، الإعلامي والصحفي الكبير، الخطيب المثقف العارف، أنت الذي أدرت ظهرك للمنصب والمنافع وفاءً للقضية والشعب الفلسطيني، أنت الذي عشت مع فلسطينيي لبنان ودافعت عن حقوقهم، ودوّنت في كتابك معاناتهم من العزل والحرمان من العمل، والتضييق والاضطهاد.. وها هي الأحداث والأيام تكشف صدق الموقف والرؤية...
أنت تخليت عن عضوية اللجنة التنفيذية من أجل فلسطين
وغيرك زحف على بطنه وتخلّى عن كل قناعاته من أجل مناصب أقّل ليبقى في ( الواجهة)، ويحظى بالمكاسب الشخصية على حساب القضية ..وتضحيات شعب فلسطين.
* رحل الأستاذ شفيق الحوت في بيروت بتاريخ 2 آب 2009
يا أبوهادر: أترى إلى أين وصلت أحوالنا؟!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 30.07.2019