لعل أهم تداعيات فرار أسرى الحرية الستة من سجن «جلبوع» هو عودة الأمل إلى الشارع الفلسطيني، فبعد سنين من الإحباط واليأس وصناعة الإحباط واليأس جاء دور صناعة الأمل، ورد الاعتبار للأمل، الذي انتعش مجدّدا تبعا للانطلاقات الكفاحية في الشيخ جراح، وفي معركة الدفاع عن الأقصى وفي هبة الكرامة في الداخل الفلسطيني، وأخيرا بعد «الهروب الكبير»، الذي حمل رسالة بأن ما يبدو أنّه مستحيل إسرائيليا هو ممكن فلسطينيا، وأن يقظة فلسطينية متوثّبة قادرة على استثمار نعاس الحارسة في برج المراقبة المحاذي لحفرة التحرر من السجن، ويقظة فلسطينية متوثّبة شاملة لا تصنع المستحيل فهذا مستحيل، لكنّها بالتأكيد تصنع الممكن، خاصة أن فلسطين اليوم للأسف، ما زالت بعيدة وبعيدة جدّا عن استيفاء الممكن والواقعي في الكفاح من أجل الحرية والعدالة.
*سجن جلبوع
لا يمكن أن نفهم حجم الكابوس، الذي تعيشه إسرائيل ونخبها الأمنية والسياسية، ولا أن نستوعب عظمة الإنجاز المذهل، الذي حقّقه الأسرى الستة بهروبهم من سجن «جلبوع»، إلّا إذا عرفنا بعض المعلومات عن هذا السجن، الذي أعد ليكون أكثر سجون إسرائيل تحصينا وحراسة وإحكاما في الرقابة.
لقد صرّح مسؤولون إسرائيليون غداة «افتتاح السجن» بأنهم طبّقوا فيه الدروس المستقاة من عمليات الهرب ومحاولات الهرب وحفر الأنفاق في سجون أخرى، وأضافوا: «العقيدة الأمنية (الجديدة) التي يستند إليها العمل في هذا السجن وهي، أن الأسرى الأمنيين يواصلون نشاطهم من داخل السجن، لذا نحن بحاجة إلى رقابة بمستوى مختلف وإلى حراسة أشدّ».
أقيم سجن «جلبوع» عام 2004 بملاصقة سجن شطّة، القائم منذ أيام الانتداب شمالي بيسان بمحاذاة قرية شطّة، التي شرّد أهلها منها قبل النكبة. وكان الهدف المباشر لإقامته استيعاب الكم الهائل من أسرى الانتفاضة الثانية، ولكنّ الهدف «الاستراتيجي» كان بناء سجن على نسق السجون الأكثر تحصينا في الولايات المتحدة وإيرلندا. وقام خبراء إيرلنديون بالإشراف على تخطيطه وتشييده لضمان أعلى مستوى من التحصين وضمان منع الهروب منه. يشمل السجن خمسة أقسام هي بمثابة سجون مستقلة عن بعضها بعضا، وتربطها ممرات اسطوانية محكمة الإغلاق، ولا يمكن للأسرى لا في الأقسام ولا في الممرات مشاهدة أي منظر خارجي، حتى لو تنقّلوا داخل السجن. وقد استهلك بناء كل غرفة فيه 66 طنّا من الباطون والحديد، مقابل 26 طنّا في غرف السجون الأخرى، وتباهى مسؤولون في مصلحة السجون الإسرائيلية بأن الغرفة في السجن هي بمثابة «صندوق خزنة» محصّن وأن اختراقه أصعب بكثير من النيل من صناديق الخزانة في بنك إسرائيل. كما لا يمكن فتح أبواب غرف السجن بالمفاتيح العادية، بل فقط من خلال نظام تحكم إلكتروني مركزي «من غير الممكن دخوله» إلّا للمسؤولين وبأذن خاص ورقابة دائمة. كما أنّ أحدا من السجّانين وحتى الضبّاط لا يعرفون مسبقا كلمة السر التي تتغير باستمرار.
بعد إقامة السجن بفترة وجيزة سمحت إدارته للصحافيين بالدخول إليه مؤكّدة لهم أن هذا سجن «لا يمكن الهروب منه»، وحين سأل الصحافيون كيف يمكن ضمان عدم حفر الثغرات في المساطب، أجاب ضبّاط السجن بثقة «تحت كل غرفة، هناك تدابير خاصة لمنع النجاح في حفر الأنفاق»، ورفضوا الإفصاح عن ماهية وطبيعة هذه التدابير الخاصة. أما جدار السجن فقد بني بارتفاع أكثر من سبعة أمتار وتعلوه، على امتداد طوله، اسطوانة معدنية كبيرة الحجم، تمنع التسلّق، وهي إذ تبدو من الخارج كنوع من الديكور إلّا أنّها في الحقيقة أنجع من الأسلاك الشائكة. وترتفع أبراج المراقبة حول جدار السجن، بحيث يستطيع الحراس مشاهدة عن قرب وعن كثب ما يجري قرب الجدار من الداخل والخارج، إضافة لذلك نصبت 72 كاميرا حديثة وأجهزة تنصّت ومراقبة مختلفة حول وداخل السجن. كما وضع تحت تصرّف إدارة السجن أجهزة تنصّت ووسائل تشويش، لمتابعة الهواتف النقّالة المهرّبة، وتعطيل عملها عند اللزوم. في ظل هذه الإجراءات الصارمة وغيرها من التدابير غير المعروفة، ليس غريبا أن تسمح السجّانة في برج المراقبة لنفسها بمد النعاس إلى غفوة، ففي وعيها ولاوعيها أنها تحرس سجنا «لا يمكن الهروب منه».
*الهروب من سجن لا يمكن الهروب منه
على الرغم من التحصينات والحراسة والرقابة الشديدة في سجن جلبوع، والتباهي بأن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أخذت كل شيء بالحسبان، فقد كانت هناك مع ذلك ثغرة «بسيطة» وهي أن خرائط السجن نشرت بالكامل وبالتفصيل على الإنترنت في موقع شركة المعماريين «بوريه يعقوبي قارني»، الذي أغلق بعد انتشار خبر الهروب. ليس معروفا بعد إذا جرى استغلال هذه الخرائط المتاحة، فإمكانية أن يطّلع الأسرى الأحرار الستة عليها لم تكن واردة، ولا معلومات مؤكّدة عن استعانتهم بأطراف خارجية. ووجود إمكانية للاستفادة منها لا يعني أنّ ذلك تم فعلا. زرت سجن «جلبوع» عدّة مرات والتقيت فيه عددا من أسرى الحرية للاطّلاع على أحوالهم، ورفع مطالبهم ومحاورتهم في الشأن السياسي والاجتماعي الفلسطيني. كان ذلك حين كنت عضوا في الكنيست الإسرائيلي، وقبل منع مثل هذه الزيارات عام 2017. لقد كانت الإجراءات الأمنية في الزيارات أشدّ صرامة من أي سجن آخر بكل ما يتعلّق بالتأخير المتعمّد في بدء كل لقاء، وعدد الحرّاس المرافقين كل أسير والمنتشرين حول غرفة اللقاء داخل السجن. لقد كنت في الماضي سجينا في سجن الدامون، وأستطيع أن أجزم بأن التحصينات والحراسة في «جلبوع» هي في اقل تعديل عشرة أضعاف ما كانت وما زالت عليه في «الدامون». وأعترف هنا بأنّي، وبعد ما رأيت بأمّ عينيّ، وبعد ما استمعت إليه من الأسرى، كدت أقتنع بأن «جلبوع هو سجن لا يمكن الهروب منه»، وحين كنت أشاهد أفلام ومسلسلات الهروب من السجن، كنت أقول لنفسي إن الهروب من سجن «جلبوع» ممكن في الأفلام فقط، وليس في أي فيلم، بل حين يكون خيال المخرج واسعا وخصبا.
سيتبين بعد مدّة أن جزءاً من المعلومات حول عملية هروب الأسرى الأحرار من سجن «جلبوع» ليست صحيحة. المشكلة أنّنا لا نعرف أي جزء هذا. وتعود عدم الدقة في المعلومات إلى أن هناك تسريبات إسرائيلية مقصودة ومتعددة الأهداف، وإلى أن الخيال العربي والفلسطيني خصب، وهناك من يتبرّع برواية «قصص مبالغات» لا أحد يعرف من أين يأتي بها.
ما حدث ليس بحاجة إلى أي نوع من المبالغة، ولا حتى البلاغية منها. فالحقيقة هنا أكثر إثارة من الخيال، وهذا الهروب لا يشبه الأفلام، بل الأفلام هي التي تشبهه.
*الملاحقة والهروب من الملاحقة
وضعت إسرائيل كل أجهزتها الأمنية في حالة طوارئ للقبض على الأسرى الستّة الذين حرّروا أنفسهم، محمود عارضة ومحمد عارضة ويعقوب قادري وأيهم كممجي وزكريا زبيدي ومناضل انفيعات. في المقابل ناشدت عائلاتهم الشعب الفلسطيني بالعمل على مساعدتهم وحمايتهم من الأمن الإسرائيلي وأذرعه المعلنة والخفية. وخرجت مبادرات خلّاقة منها مئات الاتصالات إلى الأمن الإسرائيلي وتزويده بمعلومات مضلّلة، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ضياع الحقيقة في بحر الضلال. كما بادر الشباب الفلسطيني إلى إتلاف كاميرات على المفترقات والطرق الرئيسية، وإلى تغيير وجهة كاميرات في القرى والمدن الفلسطينية. في المقابل كتب صحافيون مقرّبون من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن للشاباك «عملاء منتشرون في أنحاء الضفة الغربية كافة وحتى في أوساط السلطة»، وبوقاحة إسرائيلية معهودة توجّه مسؤولون في الموساد والشاباك إلى مصر والأردن والسلطة الفلسطينية بطلب المساعدة في القبض على «السجناء الفارّين».
هروب الستّة من السجن ضربة من النوع الثقيل لإسرائيل، وأكثر ما تخشاه هو اهتزاز هيبتها وقدرتها على الردع. فقد عملت على مدى سنوات طويلة على زرع اليأس والإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني، استنادا إلى استراتيجية «الجدار الحديدي» لجابوتنسكي، التي تنص على أن العرب سوف يصلون في النهاية إلى حالة الإحباط التام واليأس الشديد وقلّة الحيلة، بعد أن يفشلوا المرّة تلو الأخرى في اختراق الجدار الحديدي الصهيوني.
المشكلة أن هناك عربا وضعوا أنفسهم في سجون ذاتية لا جدران لها، وشرعوا ينظّرون للإحباط واليأس باسم الواقعية والعقلانية. وهذه السجون الذاتية أبشع من أفظع الزنازين. لقد هرب الأحرار الستّة من أعتى السجون، فمتى نتخلّص من السجون الذاتية.
الهروب من السجن الذي لا يمكن الهروب منه!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 10.09.2021