ثمة ظاهرة مسكوت عنها في العالم العربي وهو أن هناك موجة ردّة عن الدين، وانخفاض في منسوب التدين لدى عموم الناس، وهي موجة لم تشهد مجتمعاتنا العربية لها مثيلاً منذ عقود طويلة مضت. في بعض الدول العربية أصبحت المساجد تخلو من الشباب ممن هم في مقتبل العمر، ولم يعد فيها سوى بعضُ الكهول ممن لا يكادون يملأون صفوفاً معدودة خلال صلاة الجماعة، فيما يتراجع منسوب التدين العادي واللجوء إلى الدين لدى عوام الناس، وهذه الظاهرة مردها لسببين اثنين لا ثالث لهما.
ظاهرة الردة عن الدين لا تتوقف عند تراجع أعداد المصلين في المساجد، وإنما أفرزت جملة المظاهر الأخرى التي تشغل الأوساط الاجتماعية والتربوية في العديد من الدول العربية، مثل ارتفاع نسب الانتحار، وزيادة معدلات الجريمة، وانتشار العنف المجتمعي والأسري، وظهور أنواع غير مألوفة من الجرائم، وغير ذلك من المظاهر التي كان الوازع الديني يُشكل ضابطاً لها وحائلاً دون انتشارها. في الأردن مثلاً ارتفعت حالات الانتحار بنسبة 48% خلال العامين الماضيين، وهو ارتفاع حاد وغير مسبوق، جعل معدلات الانتحار هي الأعلى في المملكة الأردنية منذ عشر سنوات، أما مصر فتسجل أعلى نسبة انتحار على مستوى العالم العربي، حسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، فيما لا تبدو باقي الدول العربية أفضل حالاً من الأردن ومصر في هذا المجال، بعد أن أصبحت حالات الانتحار تشغل الشارع العربي من محيطه الى خليجه.
في العالم العربي ندفع ثمن ثورات مضادة كانت تريد إقصاء الإسلاميين عن الحُكم، فإذا بها تقوم بإقصاء الشارع العربي عن الدين الإسلامي برمته
أما السبب الأول لظاهرة الردة عن الدين وانحسار التدين، فيعود إلى حملة «الثورات المضادة» المستمرة منذ عشر سنوات، التي ترى في الإسلام السياسي هدفاً لها، وهذه الثورات المضادة وجدت أن استهداف الحركة الإسلامية وقوى الإسلام السياسي لا يمكن أن ينجح، من دون أن يتم استهداف الحاضنة الشعبية لهذه الحركات الدينية، وذلك عبر استهداف «التدين» بحد ذاته، أي أن الدول التي تمول وتُحرك الثورات المضادة في المنطقة، وجدت أنها لا يمكن أن تنجح في استهداف الإسلاميين الراغبين في المشاركة السياسية، من دون أن تقوم بتجفيف الحاضنة لهم، وهذه الحاضنة هي رجل الشارع، وعموم الناس، ممكن إذا تم استدعاؤهم لأي انتخابات يقومون بالتصويت للإسلاميين فيها. لقد تبين أن الثورات المضادة لا تريد فقط الانقضاض على «الربيع العربي» وعلى إفرازاته، وإنما أيضاً تريد ضرب أي حركة سياسية يمكن أن تكون بديلاً عن الأنظمة المستبدة، وهنا تم استهداف الإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الجماهيرية السياسية، ولضمان نجاحهم في سحق الإخوان ومنعهم من الوصول الى السلطة بدأوا باستهداف المتدينين عموماً، بمن فيهم عوام الناس، الذين كانوا الحاضنة للإسلاميين في السابق، وإذا بشعوبنا العربية تدفع بعد هذه السنوات ثمن هذه الثورات المضادة عبر المظاهر والإفرازات المشار إليها آنفاً، مثل زيادة معدلات الانتحار والجريمة والعنف وتردي الواقع الأخلاقي.
أما السبب الثاني لهذه الظاهرة فهو فشل تجربة الحركة الإسلامية في الحُكم والعمل السياسي وانكسار مشروعها، وهو ما دفع الكثيرين الى الاعتقاد في أذهانهم وفي اللاوعي الداخلي لديهم بأن «الإسلام ليس هو الحل»، أي خلافاً للشعار التقليدي الذي رفعته وترفعه الحركة الإسلامية، ولذلك نقول على الدوام إن على الإسلاميين أن يحسبوا جيداً حساب أي تجربة قبل خوضها، وإذا ما غلب عليهم الظن بعدم نجاحها فالأجدر والأصوب أن لا يخوضوها، لأن ثمن الفشل في أي حالة سيكون باهظاً وكبيراً.
والخلاصة هو أننا في العالم العربي ندفع ثمن ثورات مضادة كانت تريد إقصاء الإسلاميين عن الحُكم، فاذا بها تقوم بإقصاء الشارع العربي عن الدين الإسلامي برمته، وهو ما أدى بنا الى جملة من المظاهر والإفرازات السلبية التي كان الوازع الديني في السابق يحول بيننا وبينها. كما أن على الإسلاميين أن يتحروا الدقة في حساباتهم عندما يقررون المشاركة السياسية في أية بلد، فإذا ما غلب على ظنهم الفشل، فالأولى بهم أن لا يخوضوا التجربة أصلاً، لأن الفشل فيها سيكون له ثمن كبير، والأجدر عدم دفعه.
ظاهرة «انحسار التدين» في بلادنا العربية.. ما أسبابها؟!
بقلم : محمد عايش ... 23.08.2022
كاتب فلسطيني..*المصدر: القدس العربي