إذا أردت أن تدمر أي قضية أو أي ثورة أو انتفاضة شعبية أو أن تنقذ أي طاغية من السقوط وتبرر له كل جرائمه وأفعاله بحق شعبه وبلده، فما عليك إلا أن تنشئ لهذا الغرض فصائل معارضة متعددة، وكلما زاد عددها، شعر الطواغيت بالنشوة والفرحة واستبشروا بالنصر وازدادت أحوال البلاد والعباد بؤساً وفقراً وخراباً ودماراً. وضاعت الطاسة. دلوني على أي قضية تشرذمت إلى فصائل متناحرة إلا وانتهت القضية، أو في أحسن الأحوال ساءت أوضاعها وتدهور حال شعبها.
وقبل أن نأتي إلى القضايا العربية الكثيرة التي ذبحها التناحر الفصائلي في السنوات العشر الماضية، دعونا نعود إلى ما كانوا يسمونها قضية العرب الأولى، ألا وهي قضية فلسطين، التي ظلت محل اهتمام الشعوب العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج حتى اتفاق أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين، ومن ثم تحولت القضية إلى صراع بين الفلسطينيين أنفسهم، وهناك جاءت الضربة الأقسى لهذه القضية العادلة بعد أن انقسمت الفصائل حولها وقسمت معها الشارعين العربي والإسلامي، ولا ننسى أيضاً الانقسام الرسمي العربي بين مؤيد لهذا الفصيل وداعم لذاك. وبذلك فقدت القضية الكثير من زخمها وأهميتها بعد أن بات مؤيدو هذا الفريق أو ذاك يتاجرون بها ويستخدمونها لمصالحهم الخاصة تماماً، كما فعلت جماعة ما يسمى بالمقاومة والممناعة بقيادة إيران وحلفائها التي تزعم أنها تدعم قوى المقاومة لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، بينما إيران تحتل أربع عواصم عربية، وبالتالي بات الشارعان العربي والإسلامي يتساءلان: كيف للغزاة والمحتلين الإيرانيين الذين يسحقون السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين ويحتلون بلادهم أن يساعدوا الفلسطينيين؟ وفي المقابل، راح الذين يدعمون فصيل السلطة الفلسطينية يطبعون علاقاتهم بإسرائيل، فلا استفادت القضية لا من الذين يرفعون شعار التحرير زوراً وبهتاناً ولا من الذين يزعمون دعم السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وبالتالي بات الصراع الفصائلي أشبه بخنجر ينحر جسد القضية ومصالح الشعب الفلسطيني لصالح الداعمين لهذا الفصيل أو ذاك.
وكما هو واضح فإن الفصائل التي برزت أثناء الثورات العربية في هذا البلد العربي أو ذاك لم تستفد قيد أنملة من التجربة الفلسطينية، ولم تلحظ كيف أدى التناحر الفصائلي إلى تمزيق القضية وتهميشها، بل على العكس من ذلك باتت الفصائل الثورجية في بلاد الثورات تتكاثر كالأرانب. لقد أفرزت الثورة السورية مثلاً مئات الفصائل الإسلامجية التي دمرت كل أحلام السوريين بالتحرر من الظلم والطغيان، لا بل جعلتهم يترحمون على أيام الطغيان الخوالي.
وقد وصل عدد الفصائل السورية في فترة من الفترات إلى أكثر من ثمانمائة فصيل لا يجمعهم أي شيء سوى النهب والسلب والتقاتل على الغنائم وإقامة الإمارات والإقطاعات الدينية الظلامية التي ترفع شعارات دينية بينما تمارس كل أنواع الفساد والطغيان على الأرض تماماً كالنظام الذي ثارت عليه، بحيث بات السوريون يقولون وهم يشاهدون تصرفات الفصائل في عموم سوريا وخاصة في الشمال السوري: هذا الجرو من ذاك الكلب، أي أن الفصائل باتت تقلد النظام الذي تدعي أنها تحاربه. لا عجب أن وصفنا المناطق التي كانوا يسمونها بـ«المحرر» في الشمال والشرق السوري بـ«المكرر»، على اعتبار أن الشمال لم يتحرر مطلقاً كما تدعي الفصائل التي تحكمه، بل راح يكرر كل ما يفعله النظام منذ تسلطه على سوريا والسوريين قبل عشرات السنين. والأسوأ من ذلك أن الفصائل السورية لم تتعلم مطلقاً من لعبة التحالفات والولاءات التي سقطت فيها بعض الفصائل الفلسطينية، بل راحت تكررها بشكل مقرف، فقد باعت الفصائل نفسها لهذا الطرف الداعم أو ذاك لتصبح مجرد أدوات تخدم كل مشاريع الآخرين باستثناء المصلحة السورية، فرأيناها تخوض المعارك لصالح مشغليها ورعاتها وتذهب للقتال في بلاد أخرى بدل الذود عن مصالح السوريين وحقوقهم. باختصار، فقد تحولت إلى مجرد جماعات مرتزقة لا أكثر ولا أقل. وكما نرى اليوم من خلال معارك الفصائل في الشمال السوري، فإن آخر ما يهم تلك الفصائل الهم السوري، وأن همها الأول الإثراء والبلطجة والتسلط على السوريين في تلك المناطق التي يزعمون أنها محررة.
ولا يختلف الوضع بالنسبة لليبيين، فبدل أن يقفوا صفاً واحداً بعد سقوط النظام لبناء نظام جديد وجمع الليبيين تحت راية واحدة، راحت الفصائل الليبية تسمسر لهذا الطرف الخارجي أو ذاك وتتقاتل فيما بينها لصالح داعميها، فهذا يريد الانفصال في الشرق الليبي مدعوماً من قبل روسيا وبعض الأطراف العربية، وذاك يتمترس في الغرب ويحارب الشرق خدمة لمصلحة داعميه في الخارج.
ولا ننسى طبعاً المثال العراقي الذي فاق الجميع في التشرذم والولاء للغرباء على حساب الشعب العراقي، فهذا الفصيل يعمل لصالح الغزاة الأمريكيين، وذاك يعمل لصالح الغزاة الإيرانيين أو بعض الأطراف العربية، مع الاعتراف بأن العرب يبقون أضعف حلقة في الصراع الفصائلي في العراق. ولا بد من الإشارة إلى أن ما يجمع الأمريكي والإيراني في العراق أكبر مما يفرقهما.
أما لبنان فهو يلعب اللعبة الفصائلية القذرة منذ عشرات السنين حتى قبل الفلسطينيين، فقد كانت الفصائل اللبنانية تتقاتل لصالح أطراف عربية متصارعة منذ السبعينيات، ثم جاءت إيران لاحقاً لتصنع دويلة فصائلية داخل لبنان تواجه الفصائل الأخرى، مما أدى في النهاية إلى تحويل لبنان إلى دولة فاشلة.
وفي اليمن بدل أن يقف اليمنيون صفاً واحداً بعد ثورتهم على النظام النافق، تحولوا إلى أدوات في أيدي المتصارعين على اليمن، فهذا الفصيل يعمل لصالح تلك الجهة، وذلك يحارب نيابة عن جهة أخرى، بحيث تحول اليمن كسوريا والعراق ولبنان إلى مسرح لحروب بالوكالة تقوم بها الفصائل المحلية المرتزقة لمصلحة مشغليها وداعميها بثمن زهيد جداً.
هل أنتجت الثورات العربية ثواراً حقيقيين، أم أنها استنسخت الطغاة على شكل قادة فصائل. وبدل أن كان لدينا طاغية واحد وعصابة حاكمة واحدة، صار لدينا مئات العصابات وطواغيت صغار يتكاثرون. لعنة الله عليكم!
هل هؤلاء ثوار أم مرتزقة؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 22.10.2022