أقر مجلس الأمن الدولي القرار 1483 في 22 أيار/ مايو 2003، والذي نص على أن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى «دولتان قائمتان بالاحتلال» وطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين ممثل خاص للعراق تشمل مسؤولياته «تقديم تقارير منتظمة إلى المجلس عن أنشطته، وهو ما تحقق بموجب القرار 1500 في 14 آب/ أغسطس 2003 الذي أنشئت بموجبه بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي).
ومنذ بداية عملها، ظلت هذه البعثة تمارس دور شاهد زور، فقد حرصت على ألا تثير حفيظة الأمريكيين من جهة، وعلى عدم إزعاج الحكومات العراقية المتتالية من جهة ثانية، وكان ذلك بطبيعة الحال على حساب مهنيتها ومصداقيتها!
لقد تغافلت يونامي عن كل مساوئ النظام السياسي في العراق بشكل منهجي، وفي أحيان كثيرة كانت مشاركة في استمرار هذا الوضع، فمراجعة تقاريرها وإحاطاتها وتحليلاتها كفيلة بإثبات ما نذهب إليه. لقد كانت البعثة منذ البداية، طرفا أساسيا في التغطية على الانتهاكات التي رافقت الاستفتاء على الدستور، وفي نشر المعلومات المضللة المتعلقة بنسب المشاركة في انتخابات مجلس النواب التي جرت عام 2005، وطرفا في التغطية على التزوير واسع النطاق الذي كان يجري في الانتخابات المتتالية، وعلى وجه الخصوص انتخابات العام 2018 الذي اعترفت الحكومة العراقية نفسها به!
إن أخطر دور مارسته يونامي هو تغطيتها على الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي تحظى بتواطؤ جماعي من سلطات الدولة! وفي الحالات التي كانت تضطر فيها للإشارة إلى تلك الانتهاكات في تقاريرها، أو في الإحاطات التي يقدمها رئيس البعثة، كنا نرى إغفالا متعمدا لإعادة التذكير بهذه الانتهاكات في التقارير والإحاطات اللاحقة؛ مثلما فعلت حين كانت تذكر بعض الوقائع المتعلقة بالإخفاء القسري، أو التغيير الديمغرافي المنهجي، أو الحديث عن تشكيل لجان تحقيق في انتهاكات محددة، وكانت التقارير والإحاطات اللاحقة تغفل تماما الإشارة إلى استمرار هذه الانتهاكات، او عدم صدور نتائج عن تلك التحقيقات، وهو ما يعني الاشتراك الفعلي في التغطية على كل ذلك.
والمفارقة أن الممثلين الخاصين للأمين العام أصبحوا حريصين على التقاط الصور مع المتهمين الرئيسيين في هذه الجرائم والتي تصنف بأنها جرائم ضد الإنسانية وترقى لأن تكون جرائم حرب!
نص قرار مجلس الأمن 1770 في 10 آب/ أغسطس 2007 على أن من ضمن مهام يونامي في العراق «القيام بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني من أجل تعزيز سيادة القانون في العراق» لكن البعثة تخلت تماما عن هذا الدور، وأصبحت شاهد زور حقيقيا فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان، ولم تقم بأي دور في إصلاح النظام القضائي البائس في العراق، كما أنها ظلت «على الحياد» تماما فيما يتعلق بالإصلاح القانوني، بدليل أن القوانين التي شرعت تحت نظام دولة شمولي لا تزال نافذة مع أنه تتناقض تماما مع المبادئ الجوهرية للحقوق والحريات التي قررتها العهود والمعاهدات والاتفاقيات الدولية والتي وقع عليها العراق، أما مبدأ سيادة القانون فهو أمر غير مفكر فيه أصلا في العراق!
ظلت عبارة تعزيز حقوق الإنسان تتردد في قرارات مجلس الأمن المعنية بتمديد ولاية يونامي في العراق سنويا، وكان آخر ما صدر بهذا الشأن قرار مجلس الأمن 2831 في 26 أيار/ مايو 2022 الذي نص على أن من مهام البعثة «تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني»! لكن البعثة لم تقم بشيء سوى التغطية على الإفلات المنهجي من العقاب، وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم تقم بأي خطوة، ولو دعائية، تتعلق بالإصلاح القضائي والقانوني!
حدثت في الأسابيع الماضية، ثلاث وقائع صمتت، إزاءها، بعثة يونامي، ولم تنشر ولو بيانا واحدا تعبر به عن «قلقها» مثلا، مما يجري؛ الواقعة الأولى كانت الحملة التعسفية التي جرت بتواطؤ بين وزارة الداخلية العراقية ومجلس القضاء الأعلى، لملاحقة أصحاب المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، في تأويل مغالط للقانون العراقي الذي لا يعاقب على ذلك، وتكييف قسري لمادة قانونية تتعلق بالمصنفات الفنية! وهو نص يتيح للقضاء العراقي، دون أي مبالغة، الحكم على أي عراقي لديه مكتبة في بيته بالحبس لمدة تصل إلى السنتين! فهذه المادة، وهي المادة 403 من قانون العقوبات العراقي لعام 1969، تنص على أن عقوبة كل من «حاز او أحرز… كتابا أو مطبوعات أو كتابات أخرى… مخلة بالحياء أو الآداب العامة»! ومن ثم يمكن الحكم على أي نص في رواية، أو قصيدة، أو حتى كتابات دينية تتحدث عن الجنس مثلا، بأنها مخلة بالحياء والآداب العامة!
الواقعة الثانية كانت تسريب لائحة تتعلق بتنظيم المحتوى الرقمي أعدتها هيئة الإعلام والاتصالات، يمكنها أن تنافس قوانين أعتى الدول الشمولية في العالم في «تقييد» حرية التعبير من خلال تحديدات عائمة يمكن للسلطات استخدامها بكل سلاسة لملاحقة من لا يروق لها ومعاقبته على عدم مراعاة «القيم المجتمعية السائدة» أو الترويج «للمفاهيم والممارسات غير الأخلاقية» أو «الإسفاف» أو «خدش الحياء» أو «تسيء إلى الأعراف» إلخ، واستخدمت لأجل ذلك توصيفات لا وجود لها في المدونة القانونية العراقية من الأصل مثل الحديث عن «التشهير الإلكتروني»! أو الإساءة إلى «الرموز الدينية المقدسة»! أو المعلومات الكاذبة والمضللة التي من شانها الإساءة إلى الوحدة الوطنية أو السلم الأهلي أو الامن الوطني! أو «الحفاظ على القواعد العامة للذوق العام واللباقة»! او «عدم إفشاء أو تسريب الوثائق الرسمية أو ما يدور في الاجتماعات الرسمية السرية إلا بإذن خاص منها»! أو «الإساءة إلى الدولة أو السلطات العامة «! وصولا إلى عبارة «عدم انتهاك الذوق الخاص أيضا»!
الواقعة الثالثة كانت نشر قانون «واردات البلديات» في الوقائع العراقية وبذلك بات نافذا، وقد حشرت فيه مادة تنص على أن «يحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها» وفرض غرامات كبيرة تصل إلى 25 مليون دينار عراقي (أكثر من 19 ألف دولار) على المخالفين، مع إمكانية ملاحقة من يحوز على المشروبات الكحولية بموجب قانون الجمارك رقم 23 لسنة 1984 بوصفها «مادة مهربة» وهي جريمة لها قائمة طويلة من العقوبات بموجب المادة 194 من القانون! وهذا لا يستقيم في بلد متنوع دينيا، وفي بلد قرر دستوره أنه «لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية» الواردة فيه، ومن ضمنها «الحق في الحرية الشخصية» و«حرية الفكر والضمير والعقيدة»!
ومع كل هذه الانتهاكات التي مورست مؤخرا، لم تحرك يونامي ساكنا ولم تبد، على الأقل، انزعاجها من هذه الحملة التي تطيح بكل قيم الديمقراطية وعلى رأسها حقوق الإنسان.
قلنا في مقال سابق إن الأمم المتحدة، عبر بعثتها في العراق، وعبر الممثل الخاص للأمين العام، توفر الغطاء الدولي لكل ما يُرتكب في العراق من انتهاكات، ولعل صورة الأمين العام مع أحد المتهمين بجرائم ضد الإنسانية وثقتها تقارير البعثة نفسها، تختصر ما تقوم به هذه البعثة من شهادة الزور وبشكل لا يقبل الشك!
«يونامي»: من شاهد زور إلى شريك!!
بقلم : يحيى الكبيسي ... 03.03.2023
*كاتب عراقي..المصدر : القدس العربي