دعونا نعترف بمرارة أن كل الثورات والانتفاضات الشعبية التي شهدتها المنطقة قبل أكثر من عقد من الزمان قد فشلت فشلاً ذريعاً، إن لم نقل قد تحولت وبالاً على بلدانها وشعوبها، ولا داعي لشرح الأوضاع المأساوية اليوم في سوريا واليمن وليبيا والسودان والجزائر ولبنان والعراق ومصر وتونس وغيرها، لا بل إن الأوضاع في البلدان التي لم تشهد ثورات شعبية ليست أفضل حالاً بكثير، فالواضح أن القادم أعظم على ضوء التحولات والانهيارات الاقتصادية والمعيشية في العالم أجمع، فإذا كانت الشعوب الأوروبية بدأت تعاني وانتشرت في ربوعها مئات بنوك المساعدات الغذائية للجوعى والمحتاجين، فبالتأكيد فإن الوضع لن يكون أفضل بالنسبة للشعوب العربية التي تعاني أصلاً منذ عقود وعقود.
وبالتالي، ليس هناك أي أمل بالحل أو بالانفراج في بلدان الربيع العربي. قد يقول قائل: كيف لك أن تتحدث عن ثورات فشلت؟ تلك لم تكن ثورات أبداً بل «تثويرات» حركتها قوى الشر في العالم من أجل مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، وكانت بلداننا وشعوبنا وقودها وضحاياها. طبعاً الجواب على ذلك بسيط جداً، لا يهمنا إذا كانت ثورات أو تثويرات، فالظروف المأساوية في كل تلك البلدان قبل أن تندلع فيها التحركات الشعبية كانت تحتاج فقط لأية شرارة بسيطة كي تشتعل. وحتى لو أشعلها ضباع العالم وأدواتهم من أجل مصالحهم، فهذا لا ينفى أن أسباب الثورات كانت موجودة بقوة، بل كانت قادمة شاء من شاء وأبى من أبى، لأن الضغط على الشعوب كان قد قارب درجة الانفجار بكل الأحوال. وكي لا نضيع بالجدل في نظرية المؤامرة، دعونا نعود إلى الأوضاع التي نتجت عن الثورات أو التثويرات. هل هي مناسبة اليوم ومفيدة للأنظمة العربية وكفلائها وداعميها ومشغليها في الخارج؟ ألا تقبع الأنظمة والطغاة الذين أعادوا تدويرهم وفرضوهم على الشعوب، ألا يقبعون على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة لأن الأوضاع التي كانت سائدة قبل الثورات وأدت إلى انفجارات رهيبة أصبحت اليوم أسوأ بعشرات المرات، فهل يمكن أن تقبل الشعوب بالعيش في ظروف أسوأ بمرات ومرات من تلك التي ثارت عليها في المقام الأول قبل أكثر من عقد من الزمان؟
بالطبع لا. المنطق البسيط يقول ذلك. صحيح أن الشعوب بعد الذي عانته من ويلات بسبب القمع الوحشي للثورات وعمليات التهجير والتنكيل المنظم قد انكفأت قليلاً في بعض البلدان وباتت تطلب الأساسيات فقط، لكن المشكلة، كما سنرى لاحقاً، أن الأنظمة التي عادت للتسلط والتجبر والطغيان والإرهاب والترهيب ليست قادرة على تأمين أبسط المستلزمات البشرية. انظروا إلى الأوضاع في تونس فقط وسترون، فما بالكم بسوريا ولبنان واليمن والسودان ومصر والجزائر.
**إذا كانت أمريكا تترنح اقتصادياً والصين تفرض على البلدان النامية أن تدفع قروضها في أسرع وقت ممكن كمؤشر أولي على علائم الإفلاس كما يقول خبير اقتصادي صيني كبير، فمن سيساعد البلدان العربية المنكوبة، ومن سيدعم جلاديها والأدوات القذرة في بلادنا؟
دعونا نعترف أن النظام الدولي وأدواته (الثورات المضادة) قد نجح في إعادة الشعوب العربية إلى المربع الأول على كل الأصعدة وأعاد تعويم أنظمة الاستبداد التي تجثم على صدورها وتكتم أنفاسها منذ عقود، لكن صدقوني، فهو يخوض معركة خاسرة ومكلفة جداً، فالقادرون على تمويل الثورات المضادة وتدعيم أنظمة القهر والطغيان لا يستطيعون التمويل إلى ما لا نهاية، والعالم يتغير والاقتصادات تنهار في كل مكان، والشعوب تجوع ولم يعد لديها ما تخسره بعد أن دمروا أوطانها وشردوها وقتلوا واعتقلوا منها الملايين. ومن يريد أن يقضي على ثورة شعبية، فيجب أن يكون قادراً على الأقل على تأمين الخبز للشعوب التي أعادوها إلى حظائر الطاعة، لكنهم لم يعودوا قادرين، كما أسلفنا، حتى على تأمين اللقمة. انظروا حولكم في بلدان الربيع العربي التي أجهضوا أحلامها بالتغيير، فستجد أن الأنظمة والطواغيت الذين أعادوا فرضهم علينا يتخبطون ويهتزون ويفشلون في تأمين أي شيء لشعوبهم من سوريا إلى تونس، وأصبحت بلدانهم على وشك الإفلاس والانهيار. انظروا إلى وضع العملات المحلية في سوريا والعراق واليمن ومصر ولبنان وتونس، فهذا أكبر مؤشر على أين تتجه الأوضاع في تلك البلدان.
لقد حصلت مصر مثلاً على أكثر من مائة مليار دولار مساعدات من دول الخليج، لكن أين هو الاقتصاد المصري الآن؟ ما هو وضع الجنيه؟ ما هو وضع التضخم والأسعار الخيالية؟ وما هو وضع الليرة اللبنانية التي صار الدولار يساوي أكثر من مائة ألف منها؟ ما هو وضع الليرة السورية التي لو سعروها بسعرها الحقيقي مقابل الدولار لصار كل خمسة وعشرين ألف ليرة يساوي دولاراً واحداً؟
هل تعلم أن راتب الموظف السوري اليوم لا يتجاوز عشرة دولارات؟ وهذا يعني أنه حتى في أفقر البلدان الأفريقية يحصل الفقير على ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه المواطن السوري من دولارات شهرياً. لقد صارت الشعوب وأنظمتها تحت التحت وصارت خزائن الدول خاوية على عروشها ولم يعد أمامها إلا أن تنبطح أمام صندوق النقد أو البنك الدولي وتمد رقابها للذبح. والأنكى من كل ذلك، كيف يمكن لأنظمة وطواغيت دفعوا الشعوب إلى الثورات في المقام الأول وتسببوا في كل الكوارث التي سبقتها وتلتها أن يصلحوا الأوضاع بعد انهيار البلدان وسحق الشعوب وتهجيرها؟ هل يمكن للمُخرب أن يتحول إلى مُعمر؟ كيف للنظام السوري مثلاً الذي فشل في إدارة سوريا عندما كانت في أحسن حالاتها ودفع شعبها إلى الثورة أن يدير سوريا المدمرة اليوم؟ أليس «الذي يجرب المجرب يكون عقله مخرب»؟
من بربكم يستطيع أن ينتشل الشعوب العربية المسحوقة في سوريا واليمن ومصر وتونس ولبنان والسودان من قاع الفقر والجوع بعد أن قضوا على أحلامها بالتغيير والإصلاح؟ لا تقل لي دول الخليج؟ صحيح أن تلك الدول لا تستطيع أن ترفض الأوامر الأمريكية بالدفع هنا وهناك، لكن المشكلة الآن أن الرقع اتسع على الراقع، ومهما دفعت دول الخليج، فهي لن تستطيع أن تسد الرقع الذي اتسع كثيراً في العديد من البلدان العربية المنهارة، وبالتالي ما الحل؟ لا شك أن الشعوب ربما في لحظة يأس قد تقول لطغاتها ومشغليهم وداعميهم: «أطعمونا على الأقل كي نبقى على قيد الحياة ونصمت» لكن المشكلة أن أمريكا نفسها اليوم لم تعد قادرة على دفع ديونها، وهي قد تلجأ إلى نهب الودائع العربية في بنوكها وسنداتها كي تقف على رجليها، فإذا كانت أمريكا تترنح اقتصادياً والصين تفرض على البلدان النامية أن تدفع قروضها في أسرع وقت ممكن كمؤشر أولي على علائم الإفلاس كما يقول خبير اقتصادي صيني كبير، فمن سيساعد البلدان العربية المنكوبة، ومن سيدعم جلاديها وأدواتها في بلادنا؟ إنهم ساقطون لا محالة إن لم يكن بقوة الشعوب، فبقوة الظروف الاقتصادية القاهرة للجميع.
أنتم ساقطون لا محالة!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 27.05.2023