أحدث الأخبار
الجمعة 21 حزيران/يونيو 2024
أسماء مجهولة…
بقلم : سهيل كيوان ... 13.06.2024

يبذل الأهل جُهداً كبيراً للعثور على اسم لمولودهم الجديد، في البداية تكون الخيارات عديدة، ثم تتضاءل لتنحصر في خيارين أو ثلاثة، إلى أن يُحسم الأمر، ويطلق على المولود، الاسم الذي سيُعرفُ به.
أكثرنا متصالح مع اسمه، لأنّه يسمع مسوّغات إيجابية كثيرة من ذويه عن سبب تسميته.
قد يكون على اسم أحد أبناء الأسرة الراحلين، أو عن شخص ترك بصمة جميلة في حياة أحد الوالدين أو كليهما، وقد يكون سرّاً بين أحد الوالدين وبين نفسه، وقد يكون مناسبة أو مزاجاً شعبياً في المرحلة التي هبط فيها هذا المخلوق إلى عالمنا. في تراثنا الاجتماعي يطلقون اسم الجد أو الجدة على المولود البكر. يحدث أن يتدخّل الجدّ ويطلب عدم تسمية الحفيد باسمه، لأنّه شعر بأنّ كنّته أو ابنه يريدان اسماً آخر غير اسمه، ولكنّهما مُحرجان، أو لأنّه على علاقة غير طيّبة معهما، فيطلب أن يبتعدا عن اسمه، تعبيراً عن استيائه منهما، وقد يكون هو نفسه غير مقتنع باسمه، ولا يريده أنْ يتكرّر، وهذا ينطبق على الرّجل والأنثى.
لو كانت هناك رسوم ولائحة أسعار مقابل كل اسم، لاختار الناس أسماءً قد تختلف عن ما نراه ونسمعه، وقد تسبّب إشكاليات كثيرة، بعض الفقراء قد يطلقون على أبنائهم وبناتهم أسماء فخْمة، وهذا سيكلّفهم فوق طاقتهم.
سوف تفرض الحكومات رسوماً باهظة على أسماء مطلوبة مثل (محمد)، سيكون مصدر دخل جيّد للدولة، ورغم ذلك فالناس يطلبونه، وسوف تنشأ جمعيات خيرية لدعم الأسر المستورة في تسمية أبنائها وبناتها، وقد نجد محسنين من الميسورين يتبرّعون برسوم اسم محمد عن مئة مولود جديد في قطاع غزة.
يمكن مثلاً أن تكون بورصة عالميّة ومحليّة للأسماء، فترتفع أثمانها وتهبط، وتترنّح بحسب قانون العرض والطَلب.
خذ مثلاً اسم شيرين، الذي كان ثمنه حوالي مئتين وثمانين دولاراً فقط، وصل إلى تسعمئة دولار بعد استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة. هنالك أسماء كانت في حقبة ما باهظة الثمن، لا يستطيع اقتناءها سوى الميسورين، تراجعت كثيراً، وصارت من أرخص المعروضات. هنالك أولياء أمور يبحثون عن أسماء جديدة متميّزة، لم يسبقهم إليها أحدٌ، وقد نجد أسماءً غريبة، لا معنى لها في العربية، إلا بعد تحريف وَلَيِّ عُنق حرف منها، وخصوصاً أسماء الفتيات العجيبة.
قد يجد بعضهم ضالته من اسم مقدّمة نشرة أخبار، أنيقة وحسنة المظهر إضافة إلى طريقة لفظها للحروف، وشخصيتها الجذّابة. وقد يكون الاسم مستوحى من رواية أو من مُسَلْسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي، هنالك نكتة تحكي أنّ أحد القرويين في منطقة الجليل أطلق على ابنته اسم “لقيطة”، وقد أخذ الاسم من مسلسل “لقيطة” الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي، من بطولة زيزي البدراوي، عن رواية محمد عبد الحليم عبد الله.
كذلك قد يكون اسم فنان مشهور أو مطرب يحبّه أحد الوالدين أو كلاهما، من الجيل الذي واكب ما يسمى “الزمن الجميل”، هكذا نجد في بيت ما مثلاً فريد وشقيقته أسمهان، كذلك نجد فايزة يكمّله اسم الأب أحمد، ونجلاء يكمله اسم الأب فتحي، ونَجِد عبد الحليم وعبد الوهاب في البيت نفسه، وفيروز كذلك. اسم أم كلثوم له رهبة كبيرة، وقد نجده في البيوت المحافظة دينياً، إلى جانب رقيّة وزينب وفاطمة، أي أن مصدر الإيحاء هو بيت الرسول (ص) وليس الفنانة الكبيرة أم كلثوم. في حقبة صعود الناصريّة ظهرت أسماء جمال وناصر، فنجد أبا جمال وأبا ناصر من الكنيات المنتشرة في الستينيات، بل إن بعضهم أطلق على بكره اسم خالد، ليصبح بدوره أبا خالد، ولم يهملوا “عبد الحكيم” و”عامر”، نسبة للمشير عبد الحكيم عامر، الذي تنسب له مسؤولية كبيرة في هزيمة يونيو/حزيران عام 67 التي لم تنته تداعياتها الكارثية بعد.
كذلك توجد تسميات متفرّقة بإيحاء من هذا الزعيم أو ذاك، مثل كنية أبي عُديّ، نسبة لصدام، وحتى صدام نفسه.
في السّبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان حضور ملحوظ لأسماء مثل عرفات، وياسر، وجهاد، وعمّار، وإياد، كذلك جميلة نسبة للجزائرية جميلة بوحيرد، وليلى ودلال نسبة لليلى خالد ودلال المغربي، ورجاء نسبة لرجاء عمّاش، وهي فلسطينية من يافا لجأت إلى الأردن، من أوائل مؤسسي الاتحاد العام لطلبة الأردن، استشهدت عام 1955 عندما رفعت علم فلسطين فوق السّفارة الأمريكية في عمّان في مظاهرة ضدّ حلف بغداد.
في حقبة المدّ الدّيني، أو ما يسمى الصحوة الإسلامية، ظهرت أسماء مصدرها من القرآن الكريم وشخصيات من صدر الإسلام، كانت نادرة، مثل تسنيم، براء، زهراء، أسماء، خولة، حبيبة، سيرين، طلحة، عمّار، بَكر، مصعب، عُبيدة، شرحبيل، وغيرها. في مرحلة اتفاقات أوسلو ظهر بصورة محدودة ولفترة قصيرة جداً اسم “سلام” لمواليد ذلك العام 1993 والذي تلاه، وهذا شمل ذكوراً وإناثاً.
كذلك نجد في مرحلة ما استعادة لأسماء قرى ومواقع فلسطينية، مثل سيرين، يافا، بيسان، كرمل. إضافة إلى بيروت وبغداد وشام. توجد أسماء وُلد أصحابُها في مناسبات عينيّة، مثل حرب تشرين/أكتوبر 1973، نجد في أواخر ذلك العام والذي تلاه فتيات حملن اسم انتصار، الشاعر توفيق زيّاد أطلق اسم عُبور على ابنته التي ولدت بُعيد عبور قناة السّويس. كذلك هناك من يطلق أسماء تمنح المُسمّى قدرة على المناورة في المستقبل، فلا يعكس الاسم دينه أو قوميته أو توجّه أسرته السّياسي، مثل اسم سامي أو سام أو عُمري الذي ممكن أن تجده منتشراً بين العرب واليهود.
بعض الفتيات يتذمّرن من أسمائهن لأنّها تحمل صفة “اسم قديم”، عادة يكون على اسم الجدّة، بعضهن يسعى لاستبداله، ويعبّرن عن استيائهن لاختيار اسم “مُحرج” لهن، إلى أن يأتي ابن حلال، يطمئن الفتاة بأنَّ اسمها رومانسي جدّاً، بالذّات لأنّه قديم، ويدغدغ مشاعره القوميّة والدينية، وأنّ مثل هذه الأسماء هي الأجمل والأكثر أنوثة، والتي يجب أن تسود، وليس الأسماء المستوردة من الأوروبيين، التي لا معنى لها في العربية. قد يكون لظهور نجمة إعلامية أو فنّية أو شخصية مشهورة تحمل اسم الفتاة نفسه، ما يعيد لها ثقتها باسمها، فتتصالح معه. عموماً، أكثر الناس يفضّلون أسماءً حيادية، بعيدة عن السّياسة أو الاتجاه الأيديولوجي.
معظم الأسماء تفقد بريقها خلال فترات وجيزة، ولا يبقى في قوّته وجهامته، إلا تلك الأسماء الرّاسخة التي صنعت التاريخ بالفعل، ورحلت عن هذه الدنيا تاركة تراثاً يُعتد به، وما زال شاهداً على جدارة قيادتهم ودورهم.
إلا أنّ الأسماء التي يجب أن تخلّد هي أسماءٌ مجهولة، لا يتباهى أصحابها بصورِهم، يحملون أرواحهم على أكفّهم، ويلقون بها في مهاوي الرّدى، دون أن يعرف أحدٌ أسماءهم سوى قلة نادرة ممن هم مثلهم ومن حولهم.

1