أحدث الأخبار
الأربعاء 13 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أسكت أيها المتصهين!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 09.11.2024

لا يمكن لعاقل بكامل وعيه أن يكون ضد مفهوم المقاومة، فهي حق إنساني طبيعي لا يتناطح فيه شخصان، بل إنه شعور غريزي طبيعي أصيل للحفاظ على النوع، وضرورة قصوى من ضرورات صراع البقاء، فلو وضعت قطاً في زاوية ضيقة، فإنه يتحول فوراً إلى أسد شرس دفاعاً أولاً عن نفسه وثانياً عن حريته.
وإذا كانت المقاومة رد فعل طبيعي حتى لدى الحيوان، فكيف إذاً لدى الإنسان الذي يعتبر الحرية أسمى أهدافه؟ وبالتالي لا يمكن مطلقاً أن تجد عربياً شريفاً يقول لك أنا ضد المقاومة التي تذود عن أرضها وشعبها وحقوقها. لكن هذا لا يعني أن المقاومة والمقاومين قدس الأقداس ولا يمكن انتقادهم بأي حال من الأحوال. على العكس من ذلك، فالنقد ضرورة وحاجة، مع ذلك تجد كثيرين من أنصار المقاومة لا يتحملون أي انتقاد بسيط ولو كان شريفاً، لا بل إنهم يستنفرون فوراً لتوجيه الاتهامات بالعمالة والتصهين لأي شخص يطرح مجرد سؤال بريء حول ما يجري في غزة ولبنان، وهي بصراحة باتت تهمة سخيفة وممجوجة لكثرة استخدامها عمال على بطال. هل يعقل أن كل من يتكلم عن الآثار المأساوية والكارثية لهذه العملية أو تلك يصبح «صهيونياً» في نظر بعض الموتورين؟
أليس من حق الجميع أن يناقشوا الحروب وآثارها الكارثية، ما لها وما عليها؟ ما العيب في ذلك؟ كل الدول، أو البلدان، أو الأنظمة، أو الحكومات التي تحترم نفسها تقوم بعملية تقييم للحروب لمناقشة الأخطاء واستخلاص العبر والاستفادة منها وعدم تكرارها في المرات القادمة. وقد رأينا أن الإسرائيلي في كل حروبه، رغم أنه كان منتصراً، يجري دراسات ومراجعات معمقة جداً للأخطاء التي ارتكبت أثناء هذه الحرب أو تلك. لاحظ مثلاً بعد كل الحروب الإسرائيلية في لبنان أو في غزة تخرج تقارير موثقة تتحدث عن الأخطاء التي ارتكبها الجيش أو القيادة السياسية أو التي ارتكبها الإعلام في هذه الحرب أو تلك؟ لا يتردد الإسرائيليون عادة في نشر التقارير التي تنتقد بشدة نتائج الحروب، ولا يعتبرون نقد العمليات العسكرية محرماً، كما لا يعتبرون المقاتلين أبطالاً مقدسين يجب ألا تقترب منهم ولا تنتقدهم ولا تشكك بمقدراتهم. كل شيء لدى الإسرائيليين قابل للتشريح والتحليل والنقد. ولا تتفاجأ مثلاً إذا خضعت بعض القيادات السياسية والعسكرية للمساءلة والتحقيق وحتى السجن رغم أنها خرجت منتصرة من الحرب، ولم تتسبب بخسائر كبرى للشعب والبلد. وقد شاهدنا في إسرائيل أن بعض رؤساء الوزراء وُضعوا في السجن بسبب أخطاء بسيطة جداً، فما بالك إذا كانت الأخطاء تتعلق بالأمن القومي أو بحماية الدولة والشعب والأرض. هذا هو ديدن الديمقراطية في كل البلدان التي تحترم نفسها.
**لا يمكن لعاقل بكامل وعيه أن يكون ضد مفهوم المقاومة، فهي حق إنساني طبيعي لا يتناطح فيه شخصان، بل إنه شعور غريزي طبيعي أصيل للحفاظ على النوع، وضرورة قصوى من ضرورات صراع البقاء
أما عندنا فلا تستطيع أن تنبس ببنت شفة حول الخسائر الناجمة عن هذه الحرب أو تلك، فإذا أنت تحدثت مثلاً عن الخسارة الهائلة التي مُني بها سكان غزة جراء عملية طوفان الأقصى فأنت فوراً عميل وخائن ومتصهين وتشكك بالمقاومة وتطعن بالمقاومين. أليس من حق الفلسطيني والعربي أن يتساءل ويصرخ بأعلى صوته من هول حجم هذه الخسائر والكوارث الكبيرة التي لحقت بالشعب الفلسطيني؟ هل هذه جريمة بربكم تستوجب التخوين؟ نحن نتحدث هنا عن تهجير حوالي مليوني مدني فقدوا منازلهم، وأصبحوا يتلحفون السماء ويفترشون الأرض بلا طعام أو أدنى مقومات الحياة الإنسانية. ما العيب أن تتحدث عن محنة هؤلاء الرهيبة؟ نحن نعلم أن الإسرائيليين مثلاً يتحدثون عن أخطائهم وهم في عز الحرب، حتى أنهم لا ينتظرون حتى تضع الحرب أوزارها كي يناقشوا الأخطاء، بل على العكس من ذلك تجد أن وسائل إعلامهم تتصدى لكل العثرات، لا بل تهاجم بشدة القيادات العسكرية والسياسية على أبسط الهفوات. لماذا لا نتعلم من الأعداء؟ لا ننسى أن إعادة إعمار غزة تكلف عشرات المليارات من الدولارات. وحسب تقرير الأمم المتحدة لا يمكن لغزة أن تعود لحالتها القديمة إلا بعد أكثر من مئة عام، مع ذلك تجد من يقمعك ويتهمك بأنك صهيوني الهوى لمجرد أنك تتحدث عن الكارثة الكبرى وأن الوقت غير مناسب الآن، فاسكت أيها المتصهين. ومتى يكون الوقت مناسباً يا ترى؟ بعد خراب البصرة مثلاً؟ لقد انتقدنا في الماضي بعض الأصوات أو بعض الجهات العربية التي عارضت هذه الحرب أو تلك، واتهمناها بالتصهين، لكننا اكتشفنا لاحقاً أنها كانت على حق، وأن كل الذين كانوا يهاجمونها كانوا على خطأ.
لماذا أصبح بعض رموز المقاومة مقدسين لا يمكن أن يأتيهم الباطل من خلفهم ولا من بين أيديهم. أليسوا بشراً يصيبون ويخطئون؟ أليسوا مسؤولين عن أخطائهم البشرية وعما تسببوا به لشعوبهم وبلادهم؟ هل تجبّ الشهادة ما قبلها؟ هل تصبح كل ذنوب الشهداء مغفورة لمجرد أنهم انتقلوا إلى الرفيق الأعلى؟ ألا يجب أن تكون أخطاؤهم دروساً لمن سيأتي بعدهم؟
إلى متى ندفن كل أوساخنا ودماملنا تحت السجادة، ونواجه كل من يحاول تنظيفها أو معالجتها بتهمة العمالة والعداء للوطن؟ هل تذكرون الدكتور ستوكمان بطل مسرحية «عدو الشعب» للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن الذي اتهم السلطات بأنها تتستر على المياه الملوثة التي يتناولها الناس في القرية، فاتهموه فوراً بأنه «عدو الشعب»؟ ليس كل من رفع صوته ضد القطيع والمتلاعبين به متصهيناً ولا عدواً، بل إن المتصهينين الحقيقيين هم الذين يقمعون الأصوات الحرة ويغلفون الكوارث والمصائب والفواجع بغلاف ديني ووطني مزيف، ويتسترون على الحقيقة المُرة، ويلعبون بعقول المغفلين ويرمون كل من يعارضهم بتهم الخيانة والتآمر. صدق من قال: رمتني بدائها وانسلت.

1