
هنالك من يستكثرون على الفقراء أن يفرحوا بالقليل، يستكثرون عليهم شذرة من السعادة، ويصرون على تذكيرهم بأنهم بؤساء ومقهورون، وبأنه ليس من حقهم الفرح، بل عليهم أن يندبوا حظهم التعيس بلا توقف، وأن يعودوا إلى رشدهم إذا ما ظهرت على وجوههم ابتسامة، أو عبروا بطريقة ما عن أملٍ في عيش كريم، فما بالك بصورة نصر تدق جدران الإحباط والهزائم السميكة بقوة.
المشهد الملحمي لعودة مئات آلاف الغزيين من النزوح الاضطراري، وما رافقه من شتى أصناف العذاب والإذلال، بعث لونا من الفرح الممزوج بالحزن، وتحولت العودة إلى الشمال إلى مشهدٍ ملحميٍ تاريخيٍ، تحت بصر وسمع العالم كله، خصوصاً الاحتلال ومن دعموه وتواطأوا معه. عادوا إلى أنصاف وأرباع وبقايا حطام منازل، عادوا إلى أرضٍ محروقة، إلى حيث دُفن عشرات آلاف من فلذات أكبادهم وأحبتهم.
لكنها عودة مملوءة إلى جانب الحزن بمشاعر الفخر والاعتزاز والتحدي، ذلك أنهم عادوا تحت أجنحة أبنائهم المقاومين، عادوا أعزاء، وهذا هو سر الابتسامات والغناء والهتافات، فالأرواح عامرة، رغم الخراب والدمار المادي الشامل. إن كميات القهر المتراكمة التي أغرقت هؤلاء الناس، انقلبت إلى ضدها في عملية إعادة تدوير مدهشة للمأساة، حولت القهر إلى امتحان في الصبر والابتلاء، وقلبته إلى إحساس بالنصر. لم يأت المقاومون من أرضٍ غير أرضهم، إنهم أبناء هؤلاء الناس الذين صبروا وقدموا الغالي والنفيس في مواجهة أعتى آلة حرب إبادة في تاريخ البشرية، ولهذا فهم فرحون بصمود أبنائهم أولا، فرحون لأنهم عادوا رغم أنف الاحتلال الهمجي، ودول عظمى رمت بثقلها في دعم أعمى وهمجي للاحتلال! عادوا رافعي الرؤوس، رغم أنف الأنظمة وأبواقها التي بثت روح الهزيمة والإدانة للمقاومة، وتنبأت لها بخروج مُذل بعد رفع الرايات البيضاء، وفي أحسن الأحوال مثل خروج بيروت عام 1982. عادوا رغم المخاطر والتهديدات باستئناف العدوان، التي ما زالت ماثلة، ورغم افتقار المكان إلى أدنى متطلبات العيش الطبيعي، ولكنهم باتوا مقتنعين أن البيت، حتى إن كان مهدما، فهو المكان الذي يجب أن يكونوا فيه وليس أي مكان آخر. كذلك شاهدنا عودة واسعة للبنانيين إلى الجنوب، رغم المخاطر وارتقاء شهداء جدد، ورغم أنها عودة إلى بيوت وقرى مهدمة. في المقابل فإن ما يشغل المستوطنين الذين نزحوا من المناطق الحدودية مع لبنان وقطاع غزة هو التعويضات والمنح التي ستدفع للمستوطنين لاسترضائهم كي يعودوا إلى بيوتهم ومستوطناتهم.
**بكل بساطة هناك من يحمل وطنه في قلبه ووعيه، بغض النظر عن حالة هذا الوطن، ولن يستبدله بوطن آخر.. في حين يساوم المستوطن على ثمن عودته
رغم ما تدفعه السلطات وتقدمه لسكان المستوطنات، فإنهم لم يفرحوا بعودتهم كما فرح الغزيون والجنوبيون، لم يعودوا أصلا بالأعداد التي عاد فيها الغزيون والجنوبيون، في الشمال ما زالت نسبة العائدين منخفضة جدا، رغم أن الأضرار التي لحقت بالمستوطنات لا تقارَن بحجم الدمار في جنوب لبنان وفي شمال قطاع غزة. بكل بساطة هذا يعني أن هنالك من يحمل وطنه في قلبه ووعيه، بغض النظر عن حالة هذا الوطن، ولن يستبدله بوطن آخر.. يساوم المستوطن على ثمن عودته. المستوطن يريد من الوطن تخفيضات ضرائبية وتنزيلات شرائية ومنحا مالية كبيرة لاسترضائه في شتى المجالات، إضافة إلى التحصينات وأجهزة المراقبة والأبراج والجدران والخنادق والجيوش والفزعات الدولية، التي تتكفل بحمايته، وإلا فهو قد يزعل ويرى أن الوطن لا يستحق تضحيته. معظم هؤلاء الزاحفين إلى شمال قطاع غزة، على قناعة بأن وجودهم في هذه المنطقة من الوطن العربي ومن فلسطين ومن العالم، منحة إلهية، وأن ما يجري كله امتحان لصبرهم وإيمانهم وتمسكهم بعقيدتهم، وهيهات منهم الرسوب في الامتحان. في لقطة مصورة بثتها قناة «الجزيرة» من دقيقة ونصف الدقيقة، عددتُ المرات التي ردد فيها شاب عائد إلى بيته في جباليا عبارة «الحمد لله»، أكثر من عشرين مرة، ثم سجد على أرضية شقته المهشمة. هي علاقة روحانية بعيدة جداً عن المادية المجردة، ولهذا يندهش العالم ذو المعايير المادية مما يراه ويسمعه. المستوطن يفكر ويتصرف كتاجر، وقد ينتقل من مكان إلى آخر، حيث يجد تنزيلات في أسعار الأرض أو الشقق، وحيث الضرائب أقل والمنح أكثر.
مسيرة العائدين تقول إن الوطن ليس عقاراً ترتفع قيمته أو تنخفض، حسب العرض والطلب، ولا بنسبة الخطر على النفس الكامنة في المكان! شمال غزة الآن مثل فوهة بركان استراح قليلا، ولكنه قد ينفجر من جديد في أية لحظة، وهذا ما يدركه العائدون، ولكنه لم يثنهم عن الفرح بالعودة. الوطن هو جبلة متشابكة من مركبات لا تحصى، عقائدية وسياسية واجتماعية وثقافية وقيمية وغيرها، تجعل من «شادر» على عصا على أنقاض البيت قصراً للسعادة. ابن الوطن يشعر بأنه مدين لهذا الوطن بأعز ما يملك، دائما يشعر بأنه مقصر بحق وطنه، ويقول له «خذ حتى ترضى»، بينما المستوطن يحلِبُ ما يعتبره وطنه حلباً ويطلب المزيد، وهو كثير الندب والنواح والتذمر، رغم أن معاناته لا تتعدى نسبة واحدٍ بالألف مما يتعرض له المواطن الغزاوي والجنوبي من معاناة.
طبعا هنالك من الفلسطينيين والعرب الذين لم تعجبهم هذه النتيجة، ويسعون بصورة دؤوبة على بث روح الإحباط والفشل، خدمة لأجندتهم. هؤلاء يدفعون في التفاصيل الإنسانية اليومية المشروعة إلى الواجهة، ويقدمونها على الوطن بسوء نية. هؤلاء يريدون فرض الإحباط على أولئك الفرحين بما لديهم، لأن الفرح مهما كان قليلا فهو يعني فشل المحرضين على المقاومة. الاحتلال يريد لضحاياه أن يحزنوا وييأسوا، أن يسومهم أبشع وسائل الإجرام، ثم يدعوهم للانتقام من ضحايا مثلهم، وأكثر ما يغيظه هي الابتسامات والضحكات على وجه الضحايا لأنها تعني فشله. هؤلاء العائدون إلى أنقاض بيوتهم هم أنفسهم ذوو المقاومين. لو كانت هذه فرحة بضعة أفراد، لقلنا إنها تمثيلية دعائية! لو كانت مجموعة واحدة من الناس هم الذين يغنون ويهتفون، لقلنا إنها مجموعة من أنصار حركة سياسية بعينها لرفع المعنويات. ولكنه بحرٌ من الناس وكل منهم يعبر بطريقته الخاصة عن سعادته.
إنه الفرق بين الوطن والفندق.. نزيل الفندق يرفض العودة إلى بيته ما لم يكن جاهزاً حتى تفصيله الأخير، ومع آخر صرعات الأسلحة والحصون لحمايته، ويطلب تعهدات ومواثيق من أعظم دول العالم، ورغم ذلك يبقى متذمراً، وبين فينة وأخرى يبعث رسالة توبيخ إلى صاحب الفندق محتجاً على التقصير في الخدمات، ويهدد بالانتقال إلى فندق آخر. بينما لسان حال ابن الوطن يقول «يا وطن خذ حتى ترضى»، فهو راض بالقليل، وينتظر بشموخ، التحديات المقبلة التي قد تكون أخطر من كل ما مر عليه حتى الآن.
