إن النقد من منظورٍ عام، كمفهوم يتعامل معه العامة- في المجتمعات العربية- هو مقتصِر على أدوار معينة يقوم بها المسئولون أو المُخَولون بتحديد الأنظمة التي يتحكمون فيها بمصائر الناس؛ هناك النظام الاقتصادي، السياسي، و حتى الاجتماعي الذي يؤثر و يتأثر بالمستوى الثقافي الذي يطغى عليه في المجتمع. كنتُ أجد أنه من الصعب عليّ التعامل مع النصوص الأدبية، و الروائية التي تعلمتُها خلال دراستي للأدب سواء في الثانوية العامة، أو خلال الدراسة الجامعية و ذلك بسبب تحامل الأساتذة- الذين يتبعون لمنظومة المجتمع الشرقي دون وعي- على كل ما هو جديد، أو حتى دقيق جداً في البعد السيكولوجي و ربما الأثر السوسيولوجي لجميع ما كنا ندرسه خلال السنوات الماضية. و أذكر حينها أني ذكّرتُ أحد أساتذة النقد الأدبي عندما تناولنا رواية جين أوستين"Pride and Prejudice" بموضوع الميراث الذي يستحوذ عليه أحد الذكور المقربين من العائلة بينما لا تحصل عليه و لا ابنة منهم- في إطار الرواية الرومانسية-؛ فتصاب والدة إليزابيث- و هي والدة بطلة الرواية- بالهلع إن لم يكن نوبة من الهستيريا و الارتياب عندما يتاح لإليزابيث فرصة الارتباط من الوريث الوحيد لممتلكات العائلة، و نجدها ترفضه- بكل ما للكلمة من معنى!
لم يكن الأمر الذي أردت التعليق عليه أو نقده – من وجهة نظري حينها- هو أن طبيعة العلاقة بين الابنة التي تقرأ- إليزابيث- و والدها ( الذي يتجاهل والدتها و يقضي وقتاً طويلاً في مكتبه الخاص لقراءة الكتب)، هي: وحدها السبب الوحيد الذي ساعد إليزابيث عن الدفاع عن رأيها؛ فالأب يحترم وجهة نظر ابنته أكثر من رأي والدتها المصروعة، التي كانت تكترث بالبحث عن الرجل المطلوب من ناحية الجاه و المال؛ لكي تطمئن على المستوى المعيشي لمستقبل بناتها.. بل كان ما انتقدتُه بجدية مقلقة- بالنسبة لأستاذ جامعي متزوج من امرأتين- في حقيقة الأمر هو الواقع المفروض عليهن( إليزابيث و أخواتها ) من ناحية حرمانهنّ من التمتع بنفس الحقوق الملكية التي كان يتمتع بها الرجل الإنجليزي- في الفترة التي كتبتْ فيها جاين أوستن الرواية- لدرجة أني وضعتُ مقاربة بينها و بين وضع المرأة في العديد من المجتمعات الشرقية- في يومنا هذا- الذي تُحرم فيه من الميراث، أو يقلَل من شأنها لأن العائلة ترفض أن يتم تزويجها إلا من أحد ذكور العائلة- أحد وَرَثة الممتلكات أو التركة بالتحديد!
انتهتْ علاقتي بالدراسة، و لكني عقلي لم ينطفئ؛ بل زاد بالاشتعال و أنا كل مرة اقرأ، أفكر، أحاور نفسي دون أي نقاش يُشفي غليلي مع أفراد سمحوا لنفسهم بتدمير مفهوم النقد الأدبي- و إن كان على المستوى الشخصي- بالنسبة لامرأة مثلي، تقتل نفسها من أجل حب التفكير و المناقشة، و طرح الأسئلة.
أن تقع المرأة تحت سطوة مجتمع ذكوري سلطوي، و أن تقمعها تربية العائلة الشرقية التقليدية ليست المشكلة الوحيدة- من وجهة نظري المتواضعة و المتفاقمة في آن واحد- و لكن اسمحوا لي بأن أقول أن المشكلة الأكبر هي غياب دور المثقفين، و اختصار الرسالة المعنوية الثقافية، و الأداء الأكاديمي على خبرة هؤلاء الأشخاص، الذين يعتقدون أن بحصولهم على درجات دراسية عليا- غالباً من الهند و باكستان، أو حتى من انجلترا لفترة تقل عن تسعة شهور- صار بإمكانهم تقييم كل شئ بالمجتمع، بغالبية الأداء الذكوري التقليدي، الذي يُكذّب كل ما تقوم به المرأة إن لم تنحني لهم، أو تزيد من الثناء عليهم.
لا أخشى أن أقول أني تمردتُ أحياناً كثيرة عندما كنتُ طالبة في المدرسة الابتدائية و الإعدادية، و لكني بعد تجربتي الضيقة حاولتُ أن أقلص الصورة بالنسبة لنفسي؛ لأن الحلم كان قد ضاع بالنسبة لي، و صرتُ كل ما أرجوه هو أن أنهي دراستي للوصول إلى الانضمام للكلية الجامعية.
لم يكن عليّ خلال الدراسة أن أتعامل مع تمييزٍ مجحف بحقي بأداء كل المهام المنزلية، و اختصار دور أخي بتعنيفي، حتى أن والدتي كادت ترى مستواه في السيكوباتية و هو يعتدي علي دون أن تفكر بالحديث إليه أو حتى الوقوف إلى جانبي أو مساندتي، و كان العقاب يأتي ليس بسبب أخطاء ارتكبتُها بقدر ما كان بسبب مقدرته على تعنيفي وهو يستمتع بذلك دون أن يوقفه أحد، و لا أخجل أن أقول أن مستواه المنحط كان قد وصل به لمحاولة اغتصابي حتى خلال الحرب عام 2008-2009 و هو يعود إلى المنزل، و يفكر كيف بإمكانه الاعتداء عليّ بينما كان يحلق الطيران الإسرائيلي - في سماء غزة لمدة 24 ساعة- و لا يتوقف إلا من أجل تعبئة وقود الهيلكوبتر و من ثم العودة من جديد للطيران فوق كل المنازل في المدينة الغزية، و ترويعها..
لم يكن سهلاً عليّ في السنوات الأخيرة التي لحقتْ الحرب على غزة أن أتعامل مع الانسومنيا، و الشعور بنكران ألذات، و أنا أرى والدتي تكرر عادتها بجريمة الصمت. ليس ما هو حقيقي فحسب؛ بل ما حصل لي أني كدتُ أن أُصاب بالجنون، و ما عدتُ أستطيع الرقود في سريري إلا و جسدي يرتجف و عيوني ترتعش، إذا كنتم تبحثون عن معنى أعمق للتشوه ألغرائزي المنحرف لم أكن سأعطيكم إلا أخي – الذي ظل يحاول الاعتداء علي بعنف خلال الحرب و تحت القصف الإسرائيلي- كمثال لهذه السيكوباثية المنحرفة- إن لم يكن أقل!
كان عليّ منذ أن كنتُ طفلة صغيرة- في مدرستها الابتدائية و حتى المراحل اللاحقة- أن أعاني من عدم الاهتمام، أو الشعور بحب الآخرين لي، و لم يكن السبب إلا الاعتداء و العقاب- الجسدي و المعنوي- الذي تربيتُ و أنا أعاني من مضاعفاته؛ لدرجة أني وصلتُ لمرحلة من الشعور بالذنب لا ألوم فيها أحداً من أفراد أسرتي- الذين اعتدوا علي- بل صرتُ أضع اللوم على نفسي و بالفعل كدتُ أن أصل لمرحلة أتصور فيها أن كل أخ، و أم، و أب، و أخت يُعرّضون ذويهم لمثل ما عانيتُ منه- و كانت هذه بالفعل إحدى الكوارث التي تزرعها فينا تربيتنا التقليدية، و أسلوب العقاب- الجسدي و المعنوي- في المدارس، حتى أني أذكر أنه لم يكن على أي معلم/ة أن تحصل على إذن من أي من المسئولين أو أولياء الأمور من أجل تحديد العقاب المناسب للطلبة، أي عقاب يستطيع أن يفكر به المعلم/ة لم يكن مُحرماً بالمرة؛ بل كان طريقة جديدة للحصول على الإعجاب الشديد من قبل المدير/ة على الأداء الوظيفي و التربوي المسئول تجاه التلاميذ أو الطلبة- باختلاف مراحلهم التعليمية!
لم يكن هناك أي من أولياء الأمور المسئولين، الذين يتعاضدون من أجل وقف هذا التهديد التربوي، و تأثيره الخطير على أداء أبنائهم و أطفالهم حتى في المراحل القادمة من حياتهم العملية في المستقبل، و كان الأسلوب المتبع هو الحصول على رضا جميع المعلمين و إلا وقع خطر التهديد بالانتقام إما بالعلامات النهائية، أو التحقير و المعاملة السلبية أمام جميع الطلبة، و التحقير من أجل إهانة الطلاب و تعنيفهم- و هم يأملون بالنجاة من يد معلم/ة مريض/ة نفساني/ة لن يخلصه/ا العذاب المعنوي إلا بالانقضاض على الأرواح البشرية المسئول/ة منها- هكذا كان و سيظل لسنوات طويلة من المعاناة، التي لا يجد الأطفال أو حتى البالغين سبيلاً في النجاة منها إلا بالوقوع في الخطأ، و إدراك أن من أهم كوارث الحياة هي أن يكون الفرد عربياً يعيش في غيابات الجبِّ، و تحت رحمة الأنظمة التي تقتل أرواح مواطنيها، و مواطناتها بتعفنها، و فسادها- بكل شكل من الأشكال الممكنة التي تعرفونها، و التي لم يخطر على بالكم بأنكم ستتصورونها!!
كنتُ أقول لذاتي، و أنا أحلم: في ذلك اليوم الذي سأتخرج فيه من هذه المدرسة فإني لن أعود إليها بالمرة، و الحقيقة أني لم أزر إلا مدرسة واحدة- من المدارس الثلاثة التي تخرجت منها في كل مرحلة تعليمية- حتى أني أتظاهر بعدم الاهتمام عند رؤية المعلمات سواء كان بالصدفة أو بمكان عام؛ لأني لا أشعر بالفخر منهم بل بالخجل الذي توارثوه من الأجيال القديمة، و حاولوا أن يحملوننا ذنبه. كلما رأيتُ معلمة تجاهلتُها، حتى أني رأيتُ نظرة الخيبة في وجوههن عندما لم أُلقِ التحية عليهن، أو حتى أن أحاول التواضع من أجل اقتناص فرصة الحديث إليهم، و ليس السبب وحده أني نضجتُ و صرتُ أعلم أن غالبية النساء- سواء معلمات أو غيرهن- هن أعداء أنفسهن في هذا المجتمع الذكوري؛ بل لأني تأكدتُ الآن بالذات أنه لا ذنب للأجيال القادمة بهذه المعاناة التي يُسقِطها عليهم الجهل والفقر و المرض النفسي، الذي يغرق فيه النظام الثقافي التو عوي مثله مثل باقي الأنظمة التي توفر جحيماً من الإهانات للمواطنين؛ بدلاً من أداء واجبها، و نقل رسالتها بأمانة و إنسانية عالية الوجود- و إن لم يكن مفهوماً متفقاً عليه في مجتمعنا العربي!
صرتُ أحلم بعد كل هذه الإهانات، و أطلب من أختي الصغيرة و ابنة أختي؛ أن تحلمان كثيراً، كلما حلمتِ بأن تحصلي على ما تنالينه من حقوقكِ بالاحترام المتبادل و المسئولية، كلما اقترب اليوم الذين ستحققين فيه مرادكِ- بألا تصبحي واحدة منهم! قد يظن البعض أني أبالغ و لكني لا أستطيع أن أصور لكم، مدى كرهي لهم- للجحيم الذي يطبقون به على أحلام الطلبة و الأطفال- و مدى شعوري بالسعادة التي سأحققها عندما أتخلص ممن دافعتْ عن أخي، و شاركتْ والدي عندما ارتكبتْ جريمة الصمت!! حققوا السعادة لأنفسكم و أنتم تعتقدون بأنكم تستحقونها يا أحبتي!
الجريمة الكبرى -الصمت-!!
بقلم : سونيا ابراهيم ... 25.06.2013