في قلب الحشود التي تعتصم أمام مقرّ قيادة القوات المسلحة في العاصمة السودانية الخرطوم، يبصر المرء لافتة من طراز خاص، تحمل اسم “الاتحاد التعاوني النسوي لبائعات الشاي”. وللوهلة الأولى قد توحي الصيغة بما درجت عليه الأحزاب الشيوعية العربية من تكوين نقابات مهنية، ظلّ الكثير منها هلامياً وتسمية على غير مسمى، والقليل منها اكتسب بالفعل محتوى ملموساً على أصعدة نضالية مطلبية. غير أنّ اتحاداً تعاونياً مقتصراً على مهنة كهذه تحديداً، بما تفيده مفردة “اتحاد” من معاني التعدد والتنوّع قبل الوحدة والاندماج، يحرّض على تأمّل معمّق أوّلاً، بعد أن يثير مشاعر مختلطة من الدهشة والإعجاب.
ثمة، بادئ ذي بدء، جمعيات سودانية متنوعة تحمل صفات نقابية متفردة الشخصية، مثل “الجمعية التعاونية للمتعاملات بالأطعمة والمشروبات” على سبيل المثال، لكنّ البُعد الأشدّ تميّزاً في غالبيتها أنها تجمعات نسوية بالكامل؛ ليس بمعنى هيمنة العنصر النسائي فيها، كما قد يخال المرء، بل أساساً لأنها أشغال تمتهنها النساء حصرياً، وعلى مداخيلها تقتات ملايين العائلات. الرجل، في المقابل، يسهم في إعالة الأسرة بالطبع، ولكن في أعمال أخرى قد تقتضي منه السفر خارج موطن الأسرة، أو حتى خارج السودان. ولم يكن مستغرباً، والحال هذه، أن تحظى المرأة السودانية بحصّة من نفاق العلاقات العامة للإدارات الأمريكية، فيستقرّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري على السيدة عوضية كوكي، بائعة الشاي ورئيسة الاتحاد التعاوني النسوي، ضمن أشجع 10 نساء حول العالم، في سنة 2016.
وليس مستغرباً، استطراداً، بل هو تطوّر طبيعي ومآل منطقي، أن تشكّل المرأة نسبة الثلثين في مجمل التظاهرات ومسيرات الاحتجاج والاعتصامات التي عصفت بالسودان منذ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2018، وأطاحت حتى الساعة بالدكتاتور عمر حسن البشير، ولا تنوي غضّ النظر عن شركائه وخلفائه وحوارييه في نظام الاستبداد والفساد. ولعلّ السبب الأوّل، والجوهري، هو هذا الموقع الذي تشغله المرأة في سلّم قوى الإنتاج وعلاقاته؛ وأنها، بناءً على ذلك، ظلّت عرضة لشتى صنوف القهر والقمع والاضطهاد والتهميش، خاصة خلال عقود هذا النظام تحديداً، وفي ضوء تطبيق أحكام الشريعة ضمن مفاهيم مضللة حول “النظام العام”، في سنة 1992 وتعديلات 1996.
وهكذا فإنّ المادة 152 من القانون الجنائي السوداني حول “الأفعال الفاضحة والمخلّة بالآداب العامة”، يقول نصّها: “1) مَنْ يأتي في مكان عام فعلاً أو سلوكاً فاضحاً أو مخلاً بالآداب العامة أو يتزيا بزي فاضح أو مخلّ بالآداب العامة يسبب مضايقة للشعور العام يعاقب بالجلد بما لا يجاوز أربعين جلدة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً. 2) يعدّ الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل”.
وعملاً بأحكام هذه المادة اعتُقلت ذات مرّة الصحافية لبنى أحمد حسين، وحُكم عليها بـ50 جلدة لأنها كانت ترتدي “ملابس تسبب مضايقة للشعور العام”؛ لم تكن في الواقع سوى بنطال فضفاض من القماش العادي (وليس الـ “جينز” الضيق!)، ينسدل عليه قميص ملوّن يكاد يبلغ الركبتين، مع غطاء الرأس السوداني التقليدي أو “الطرحة”. من نافل القول أنّ حسين لم تُعتقل لسبب كهذا، بل لأنها اعتادت على نشر مقالات نقدية نارية ضدّ السلطة، في عمود شهير جسور يحمل العنوان الدالّ “كلام رجال”؛ ولهذا فقد طبعت 500 دعوة إلى الجمهور، لحضور واقعة جلدها!
هذا هو إرث القهر الذي تثور عليه المرأة السودانية اليوم، من موقعها الاجتماعي ــ الاقتصادي بوصفها ضحية النظام أوّلاً، كما يصحّ القول؛ ثمّ من حقيقة انتمائها إلى معادلة التغيير السياسي المطلوبة، تالياً؛ وثمة مقادير عالية من وشائج الترابط بين هذه وتلك، غنيّ عن القول.
نساء السودان: الشاي والكرامة !!
بقلم : صبحي حديدي ... 21.04.2019
*المصدر : القدس العربي