أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ُ السجينات ... فوق كفِّ السيدة الجميلة!!
بقلم : فاطمة ناعوت  ... 26.05.2019

“ماذا يفعلُ أطفالٌ دون الثانية في حوش السجن؟" هتفتِ الصحفيةُ الشابّةُ من وراء القضبان صارخةً في وجه المجتمع. كانت تظنُّ أن الأطفالَ جاءوا مع الزائرين ذويهم من السجناء. لكن صدمتها كانت هائلة حين علمت أن أولئك الأطفال سجناءُ مع أمهاتهم السجينات، لأن لا أحدَ يرعاهم خارج السجن. كانت الصحفيةُ الجميلةُ تُجري تحقيقًا لجريدة "الأخبار" داخل أروقة سجن النساء، لكنّها لم تخرج بتحقيقها الصحفيّ وحسب، بل خرجت من بوابة السجن وهي تحمل رسالةً كبرى عزَّ نظيرُها.
همسَ قلبُها: "كيف تجرؤ القضبانُ الغليظةُ على حبس عصافيرَ صغارٍ لم تقوَ أجنحتُها بعدُ على الطيران؟! الأطفالُ محلُّها الحدائقُ والأراجيحُ، وليس قضبانُ الحديد." وقرّرت من فورها إنشاء جمعية لرعاية أطفال السجينات. وكان لها ما أرادت عام 1990، في بادرة لم يفعلها أحدٌ. وبعد أعوامٍ قرّرت حلّ المشكلة من جذورها بتحرير "سجينات الفقر" اللواتي دخلن السجن لعجزهنّ عن سداد ديونهن البسيطة. كانت تدفعُ لهنّ مغارمهنّ وتُخرجهن من عتمة السجون إلى نور الحياة. ثم اكتشفت أن خروجهن لا يحلُّ المشكلة؛ لأن الفقر والجهل بالقانون، كانا عدوّين للغارمة، فتعود إلى السجن مرّة أخرى لذات السبب: “العجز عن السداد”. فقررت حلّ المشكلة من جذورِ جذورها بأن احتضنت أولئك النساء، وأنشأت لهنّ مشاريعَ صغيرةً، وجلبت خبراءَ لتدريبهن على الحِرف والصناعات الصغيرة، حتى يصبحن قادرات على كسب أرزاقهن، فلا يعدن للسجن مرّة أخرى. هكذا كان العقلُ المثقف الذي عمد إلى تفكيك حبائل الأنشوطة الموجعة من جذورها، وليس الحلول القشرية التي تداوي العرضَ ولا تعالج المرض. هذه السيدةُ التي تستحق "قلادةَ النيل" عن استحقاق، هي الروائيةُ والصحفية الفاتنة الأستاذة: "نوال مصطفى". المصريةُ العظيمة التي أصبحت، وهي في مقتبل عمرها، أُمًّا رحيمةً لآلاف النساء الفقيرات المجهدات اللواتي يكبرنها عمرًا، تعسّرت بهن الحياةُ؛ فكانت لهنّ اليدَ التي تمسح الكدَرَ وتُفكّكُ الكربَ وتجفف الدموع.
طبيعيٌّ أن يتعاطفَ الناسُ مع الفقراء والمرضى والثكالى والأرامل. لكن المدهشَ أن يتذكّر المرءُ فقيراتٍ منسيّاتٍ لفظهنّ المجتمع وألقى بهنّ وراء القضبان حتى سقطن في دائرة النسيان. تلك هي المعجزة التي صنعتها "نوال مصطفى". لكنها لم تكتف بالتذكّر والتعاطف، بل أنفقت زهرةَ عمرها وأهرقت عرقها ومالها وجهدها حتى تصنع مع فريق عملها الرائع "حياة جديدة" لأولئك المنسيات، فيتحوّلن من "عبء" على المجتمع"، إلى مواطناتٍ صالحات فاعلات منتجات يساهمن في نهضة الوطن.
لكل هذا لم يكن غريبًا حين شاهدنا بعض تلك النساء وهنّ يعانقن نوال مصطفى عناقَ الغريق الذي وجد يدًا امتدت لتنقذه من الموت المحقّق. في حفل الإفطار الرمضانيّ السنوي الذي أقامته "جمعية رعاية أطفال السجينات" قبل أيام، وقفت ثلاث نساء يحكين لنا كيف تحوّلن على يد تلك الرائعة: من سجينات منبوذات إلى سيدات أعمال صغيرة يملكن الوعي والثقافة والمال واحترام المجتمع.
تتلمذت على يد رائد "الصحافة الإنسانية" مصطفى أمين، فأصبحت أمًّا روحية لأطفالٍ محرومين وأمهات تعيسات. أعطتهم من قلبها مثلما أعطت ابنتها الوحيدة الجميلة "شروق". آمنت بأن مكوث الأطفال في عتمة السجون، سيُطفئ شمعةَ البراءة في أرواحهم، فيخرجون للحياة بقلوب مصدوعة، تملأها الثقوبُ التي قد تغدو حقلا خصبًا لإغواء الجريمة. فتأملوا معي كم أجهضتْ تلك السيدةُ مشاريعَ محتملة لمجرمين ومتسولين وأطفال شوارع! وتأملوا كيف أصلحت حال سجينات من ضحايا الجهل وبطش المجتمع وقمع الرجل! أنشأت 300 مشروع صغير للغارمات تخلصن بها من شعورهن بالدونية والإقصاء المجتمعي بعدما قامت بتعليمهن ورفع وعيهن بحقوقهن وواجباتهن ودعمهن النفسي لمواجهة نظرة المجتمع القاسية، واحتضنت 12 ألفًا من أطفالهن. وتعكف الآن على إنشاء مصنع ومشغل لتوفير فرص عمل للغارمات السابقات. لهذا استحقت دعم وزارة التضامن الاجتماعي، ووزارة الشباب والرياضة، التي تخطط الآن لتنظيم مسابقات لاكتشاف مواهب للغارمات حتى يفيد المجتمع من تلك الطاقات المعطّلة. ولهذا أيضًا استحقت الجميلة نوال مصطفى جائزة "صنّاع الأمل" من الشيخ محمد بن راشد، والتي أرجو أن تقابلها جائزةٌ مصرية رفيعة من وطنها لقاء ما قدمت له ولنا من أعمال جليلة بتحويل "الِمحَن" إلى "منح"، وتحويل المستهلكين إلى منتجين، وإنقاذ شطر من طفولة مصر من مجهول مظلم إلى إشراقة غدٍ جميل.
"الأمهاتُ السجيناتُ/ اللواتي نسيْن الفرحَ/ ونسيَهنَّ/ مشغولاتٌ هذا الصباحْ/ بجمعِ الزهورِ الشحيحةِ/ التي بالكادِ تنمو/ على ضفافِ الجدْبِ الموحشِ/ كي يجدلنَ إكليلاً أبيضَ/ لهامةِ السيدةِ الجميلةْ/ التي صنعتْ من قلبِها عُشًّا/ يحمي أحلامَ العصافيرْ/ ومزقّتْ ذيلَ فستانِها/ لتنسجَ ضِماداتٍ للأجنحةِ الصغيرة/ التي تكسّرتْ على جدرانِ العنبرْ/ ثم مدّت كفَّها البيضاءَ/ ليلتقطَ الطيرُ الجائعُ/ من راحتِها/ حبوبَ القمحِ/ وفتافيتِ السكّرْ.”
“الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

1