ابتداءً لابد من القول إن إبداع الشباب المصري في تنظيم حركة «تمرد» كان مُدهشاً بكل المعايير، وإنه أدخل وعبر الملايين التي استطاع حشدها في زمن قياسي آلية جديدة في العمل الشعبي والجماهيري. وإنه أثبت من ناحية ثانية أن الشريحة الشبابية في الوطن العربي هي مخزن هائل للأفكار والحراك الخلاق. «تمرد» أصبحت شبه نظرية يريد شباب آخرون في البلدان العربية من تونس، إلى فلسطين، تبنيها وتطبيقها. ولابد من القول أيضاً إن حكم «الإخوان المسلمين» في مصر تخبط من فشل إلى آخر، وقد وفر وقوداً متواصلاً للمعارضة الشبابية والجماهيرية العريضة كي تستكمل مشروعها الاحتجاجي الكبير. وذلك الفشل في طريقه لخدمة المسار الديمقراطي ليس في مصر وحدها بل وفي العالم العربي برمته (بما في ذلك تحجيم تيارات الأسلمة السياسية ودمقرطتها ودفعها إلى مربعات الواقعية(.
والديمقراطية العربية كانت ولا تزال تواجه عائقين كبيرين في المنطقة هما بعض الأنظمة المُستبدة والإسلام السياسي. وإنجاز «الربيع العربي» تمثل في إسقاط العائق الأول في عدد من البلدان، وهو عائق ثبت بعد عقود طويلة من الديكتاتورية أنه صلب ومتجذر ولم يكن بالإمكان مواجهته إلا عبر ثورات شعبية. أما العائق الثاني، الإسلام السياسي، فلم يكن من الممكن إزاحته، أو عقلنته ديمقراطياً، إلا عبر التجربة الديمقراطية نفسها، باستثناء الحالات التي سيطر فيها الإسلام السياسي عبر أدوات مستبدة مثل الحكم في السودان الذي وصل إليه عبر الانقلاب العسكري. وفي بلدان «الربيع العربي» التي وصلت فيها حركات الإسلام السياسي إلى الحكم عبر الانتخابات توافرت فرصة لتجاوز العائق الثاني ديمقراطياً وسلمياً ومدنياً. يقوم هذا التقدير على قناعة وحقيقة أثبتتها تجارب البشرية وخاصة في القرون الأخيرة تقول إن إقحام الدين في السياسة مآله الفشل، لأن فيه تشويهاً للدين وإفساداً للسياسة. لن تنجح أية حركة إسلامية في العالم المعاصر في حكم أي بلد من البلدان، لأن تعقيدات الحكم والمجتمعات والاقتصاد والعلاقات الدولية لا تحتمل وجود منظومة دينية على رأس الحكم. ذلك أن الدين، أي دين، هدفه الهداية وليس السياسة، ويقوم على يقينيات وقناعات بين «حق» و«باطل»، بينما قد تقوم السياسة على مساومات وتعقيدات ومناورات وأنصاف حلول بما فيها الخداع والتمويه أحياناً وهي أمور لا يحتملها الدين. بيد أن هذه المقولات النظرية ما كان لها أن تصبح قناعات واسعة عند جمهور الناخبين من دون تجارب عملية.
ومرة أخرى، تجارب الإسلاميين في الحكم بعد «الربيع العربي» كانت كلها تقول إن «أسلمة السياسة» لا مستقبل لها. بل إن التجربة الأكثر نجاحاً، خارج المنطقة العربية، وهي تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، بدأت تتخبط الآن فور أن انحدرت إلى مسار «أسلمة السياسة». بقيت تلك التجربة ناجحة في مرحلة استثمارها وبنائها على ما كان قائماً من دولة مدنية ومؤسساتية، ونجحت أكثر عندما ركزت على سياسات الخدمات والاقتصاد. وعندما أراد أردوغان توظيف النجاحات الخدمية والاقتصادية في مشروع أسلمة الدولة والمجتمع ثارت في وجهه شرائح عريضة، وما لم يتراجع عن نزعة التأسلم المدفوعة بعجرفة سلطانية فليس من المُستبعد أن تتسع حركة «تمرد» التركية هناك.
واستناداً على ما سبق يمكن تسجيل عدة ملاحظات حول ما حصل في مصر. والآلية الأهم في محاولة تغيير أو إسقاط رئيس منتخب هي الانتخابات. وفي حال ابتعاد موعد الانتخابات عن لحظة اتساع نطاق المعارضة الشعبية تصبح الانتخابات المبكرة هي الحل. وإلى هنا كان مطلب «تمرد» شرعياً وديمقراطياً ومُحقاً. وكان بالإمكان مواصلة الضغط على الرئيس المعزول مرسي و«الإخوان» للوصول إلى تلك الانتخابات.
والاحتكام إلى «شرعية الشارع» عوضاً عن الشرعية الانتخابية معناه وضع هاتين الشرعيتين ضد بعضهما بعضاً. وجوهر العملية الديمقراطية يقع هنا بالضبط أي في تقنين شرعية الشارع في إطار الشرعية الانتخابية. وبخلاف ذلك، وكما حصل في مصر، نصل إلى مأزق مفاده أن خروج الشارع يبرر للخارجين إسقاطه. وتطبيقاً لذلك، وفي الحالة المصرية، ماذا لو افترضنا نظرياً أن «الإخوان» استطاعوا أن يحشدوا «شارعهم» مع مؤيديهم بما يفوق حشد «تمرد»؟ هل يشرعن ذلك لعودتهم للحكم، أو حتى لـ«تمردهم» على أي حكم مستقبلي يكون منتخباً؟
وثمة ملاحظة متعلقة بأخونة الدولة ومحاولة «الإخوان» السيطرة على مفاصلها، وأن بقاء مرسي في الحكم يعني مزيداً من تلك الأخونة. وهذا تخوف مشروع. في العصر الحالي، حيث انفجار الثورة الإعلامية التي يوجد فاعلوها في جيب كل مواطن، عبر أجهزة الهاتف النقال والكاميرات، فضلاً عن الفضائيات وسواها، لم يعد بإمكان أي زعيم على وجه الأرض القيام بما يحلو له بمطلق الحرية كما كانت الأمور إلى وقت قريب. كل قرار اتخذه مرسي كان موضع تمحيص ونقد ونقاش إعلامي ليس في مصر وحدها بل وخارجها. كما أن الكل يعلم أن القرارات التي اتخذت بالإمكان إلغاؤها في أول فرصة، ولا يمكن أن تغير من وجه مصر. ولم يستطع مرسي وحركته الحد من فاعلية الشعب المصري، ناهيك عن أخونته أو السيطرة عليه، بدليل نمو واطراد حركة «تمرد» ذاتها. ولم يستطع أن يسيطر على الإعلام أو يحد من فاعليته.
والملاحظة الأخيرة تتعلق بتدخل الجيش في السياسة وتوكيله الإشراف على العملية الانتقالية. نتمنى أن يكون هذا التدخل قصير المدى، ويرجع الجيش إلى ثكناته.
ومهما حاولنا نفي التشابه بين ما حدث في مصر وما حدث في الجزائر في أوائل التسعينيات من القرن الماضي عندما تدخل الجيش هناك وقطع الطريق على الإسلاميين يبقى هناك تشابه لا مناص عنه. ونعرف جميعاً أن خطوة الجيش الجزائري قادت إلى حرب أهلية طاحنة أكلت عقداً من السنين وكان ضحاياها عشرات الألوف من الجزائريين.
قراءة في الحالة المصرية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 12.07.2013