لم أفرح ولم أحزن لرحيل الجنرال شارون، فهو ميّت سريريًا منذ ثمان سنين، وحبذا لو بقي عشرًا أخرى بهذه الحالة، فقد يكون عبرة لجميع (الشارونيين) من الصهاينة والعرب والعجم، وبصراحة كنت أفضل لو رحل سفّاحٌ آخر ما زال يتمتّع بصحته وحقده وقواه التدميرية، لربما نجت من وحشيته بعض الأرواح فأراح العباد من شرّه واستراح.
رحل شارون كالبعير على فراش المرض، دون أن يعاقب على جرائمه، اللهم إلا هذا العقاب الإلهي الذي اعتبره البعض نتيجة لدعوات المظلومين عليه، واعتبره البعض (طبيًا على الأقل) نتيجة لشراهته في الطعام والشراب.
رحل وترك وراءه عشرات ومئات وربما آلاف (الشارونات)، بعضها ينطق بلسانٍ عربي مبين، وليس في فلسطين فقط، بل في كل أرجاء الوطن العربي المنكوب، فلكل بلد (شاروناته)، ولكل بلد ضحاياه من المدنيين وغير المدنيين المظلومين الذين يُذبحون كالأنعام، أو يتم اصطيادهم عند مصادر المياه أو أمام أفران الخبز، وحتى في دور العبادة كما فعلوا ويفعلون، مع فارق أساسي يُسجّل لصالح شارون الأصلي، وهو أن (شارون) الصهيوني اكتسب صفته كمجرم حرب (واعتُبر بطلا في قومه) بعدما أبلى بلاءً منكرًا في عمليات وُصفت بأنها ‘بطولية’ وراء الحدود، وكانت باكورة مجازره قتل أربع نساء قرويات في منطقة القدس كن في طريقهن إلى بئر ماء، وما لبث أن تطور وترك وراءه سبعين جثة من المدنيين في قرية قبية الفلسطينية تحت الحكم الأردني عام 1953. شارون لم يميّز بين ذكر وأنثى وطفل وشيخ أو بين عسكري ومدني، فقد تعامل بمساواة مع الجميع، كلهم عربٌ وكلهم هدف لرصاصه ومتفجّراته وسكاكينه، ورغم هذا يُسجّل لصالح شارون أنه لم يعذّب ولم يقتل أحدًا من أبناء جنسه أو جلدته، بينما (شارونات) العرب قتلوا وأثخنوا بأبناء جلدتهم وما زالوا يفعلون، حتى صار يبدو (شارون السفّاح) قطًا وديعًا مقارنة بجرائمهم. شارون أجرم كي يحقق حلمًا صهيونيًا وهو إرهاب الفلسطينيين وقهرهم وترحيلهم ليقيم على أنقاضهم دولته، بينما (شارونات) العرب أجرموا ويجرمون بشعوبهم إذا ما شعرأحدهم بخطر يتهدد كرسيه وامتيازاته السلطوية وليس بلاده.
الذريعة التي استخدمها شارون وما زال يستخدمها جنرالات إسرائيل أثناء ارتكاب مجازرهم هي أن هؤلاء المدنيين يُخفون ‘مخربين’ بين ظهرانيهم، أو أن هؤلاء المدنيين رهائن بأيدي ‘المخربين’، والضحايا يتحمل مسؤوليتهم’المسلّحون الإرهابيون’.
هذه الأسطوانة رافقت الحركة الصهيونية منذ نعومة أنيابها ومخالبها، مرورًا بكل مراحل مجازرها ضد العرب، وزعمت دائمًا في حروبها وعملياتها الإنتقامية أن ‘المخربين’ يختبئون في المناطق السكنية وينصبون أسلحتهم هناك، ولهذا فكل القتلى المدنيين يسقطون ب’طريق الخطأ’، وبهذه المناسبة يُمعن جيش إسرائيل ‘الحضاري’ (بالخطأ)، كوسيلة ضغط على المقاومين وحرمانهم من الاحتضان الشعبي لهم،ولإحداث شرخ بين المقاومين والأهالي، هذا فعلته إسرائيل بشكل منهجي في فلسطين ومخيمات الشتات منذ النكبة حتى يومنا هذا، كذلك فعلته ضد شعوب مصر وسورية والأردن في أعوام نشأتها الأولى وفي لبنان وفلسطين حتى يومنا هذا.
الذريعة ذاتها وبطريقة أسفل تعود على نفسها من قبل النظام السوري في حصاره لمخيم اليرموك وفي قصفه العشوائي للمدن السورية، فهو يمنع رغيف الخبز وحبة الدواء والماء عن المدنيين المحاصرين في اليرموك، والحجة هي أن المسلحين يحولون دون إدخال المؤن ويقنصون المدنيين ويستخدمونهم كرهائن، وهي الذريعة ذاتها لإلقاء البراميل المتفجرة من الطائرات على الأحياء السكنية في حلب وحمص وريف دمشق وغيرها من البلاد السورية، هي حرب يدعيها النظام على ‘الإرهاب’ لا تميّز بين مسلح ومدني سواء كان فلسطينيًا أو سوريًا مسلحًا أو مدنيًا.
عاش أهل مخيم اليرموك عقودًا يقتاتون شعار’لا حق يموت ووراءه مطالب’، وبعضهم حفظ مفتاح بيته في فلسطين وأورثه لأبنائه، كان هذا في السنين الغابرة، وبعدما هَرمت ورحلت أجيال، أدرك أهل اليرموك وغيرهم في المخيمات أن شعارات (الممانعة والمقاومة) ليست سوى واحدة من وسائل إدارة السلطة، وراح بعضهم يتقرب من السلطة لتسهيل أمور حياته شانه بذلك شأن المواطنين السوريين، بينما لم يعد للمقاومة على أرض الواقع علاقة بالصراع مع الصهيونية إلا بالشعارات، اللهم إلا ببعض الممارسات التي خدمت الصهيونية مثل التدخل لتدمير الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية في لبنان، وفرض الهيمنة على البندقية والقرار الفلسطيني داخل سورية، ولا مكان ولا أمان ولا فرص عمل أو تقدم لمن يعترض.
كان لاجئو اليرموك وغيرهم يعرفون أن النظام يقتات على الشعارات بما يخص فلسطين والجولان المحتل، فهو لم يسمح بإطلاق رصاصة واحدة باتجاه الأرض المحتلة، ومن فعل ذلك غامر بحياته مرتين، مرة أمام العدو الإسرئيلي ومرة أمام جيش النظام، وفي حال تم إلقاء القبض عليه إذا لم يُقتل، يقضي بقية حياته في السجن، وقد يُتهم بالخيانة والتآمر ومحاولة توريط القطر في مواجهة غير متكافئة مع العدو، ويتبعه في سجنه كل من يسأل عن مكانه أو عن مصيره أو سبب اعتقاله حسب قانون الطوارئ، فالنظام هو المسؤول الوحيد عن تحرير الأرض المحتلة ومحاربة الصهيونية والإمبريالية، إلى أن تحوّل التحرير إلى ظاهرة خطابية وإنشائية، لم تعد تثير حتى خيال اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين والسوريين.
اشترك شارون والنظام السوري بالتساوي في كراهية الراحل ياسر عرفات وفي محاربة منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الحليفة لها في لبنان بسبب تحررها من هيمنة النظام السوري.
شارون في اجتياحه للبنان وحصاره لبيروت صيف 1982 وتورطه وتواطئه في مجزرة صبرا وشاتيلا زعم أنه جاء لينقذ المسيحيين من الغرباء وحلفائهم اللبنانيين، وهو نفس ادعاء النظام السوري عندما تواطأ في حصار مخيم تل الزعتر وتدميره بعد تجويع ساكنيه عام 1977 لمدة أشهر.
يزعم النظام الآن وهو يدمر بلده بأنه يحمي الأقليات من مسيحيين ودروز وعلويين وسنة معتدلين من بطش الإسلاميين، وهذا يتناغم مع دعوة السلطات الإسرائيلية في هذا الوقت بالذات لتجنيد العرب المسيحيين الفلسطينيين في صفوف جيش الإحتلال الإسرائيلي بحجة المصير المشترك للأقليات في المنطقة، وهم اليهود والمسيحيون والدروز (والمسلمون المعتدلون) في مواجهة ‘الإسلام المتطرف’، هو نفس الإسلام المتطرف الذي يزعم نظام الأسد بأنه يحاربه وينقذ العالم من خطره. بلا شك أنه يوجد إسلام متطرف وهو نتاج الاحتلال والدكتاتورية، وهو يحارب ويسيء للمسلمين كما يحارب ويسيء لغيرهم، ولكن ما هو معيار التطرف! في مفهوم الاحتلال أنت متطرف منذ إعلان رفضك للإحتلال ومقاومته، وفي مفهوم النظام أنت متطرف حين تعلن رفضك للدكتاتورية وتحاول التخلص منها، وبهذا يلتقي النظام مع الإحتلال في جبهة واحدة ضد عدو مشترك يطلقون عليه ‘الإسلام المتطرف’، هذا التعبير الفضفاض قد يشمل حتى المسيحي المعارض، فكل مقاوم للاحتلال أو للدكتاتورية هو متطرف، والنتيجة أنهم يحاربون شعوب المنطقة التواقة لحريتها وانعتاقها من الاحتلال ومن القمع بكل تجلياته ووجوهه مهما ارتدت من أقنعة.
بين شارون وبشّار(ون)..!!
بقلم : سهيل كيوان ... 16.01.2014