عندما نقلب الصفحة الأخيرة من رواية أحمد السعداوي المبدعة «فرانكنشتاين في بغداد» (منشورات دار الجمل، بغداد-بيروت)، نظل نقلب الأفكار في رأسنا ونسأل: من هو وحش بغداد حقاً؟ ومن الذي صنعه؟ وما هي مكوناته؟ وكيف طال به العمر؟ ليفتك بكل أولئك الأبرياء؟ تأخذنا الإجابات المريحة إلى تعميم المجرم لتشير إلى أن الوحش هو الغزو الخارجي، أو هو الطائفية، أو هو السياسة ومصالحها وأربابها. في الإجابات المريحة هذه وما شابهها ثمة فرضية كسولة تحاول اختزال المعقد وتسطيحه وتقسيم بشاعة التوحش على اثنين: مجرم وبريء. بيد أن مرارة الواقع الرمادي تهزأ بهذا التسطيح وبسذاجة تصنيف الأبيض والأسود والاختزالي. السعداوي يقلع هذه الثنائيات الحادة؛ مجرم وبريء، أبيض وأسود، خير وشر، من مواقعها المزعومة. يجرها ويلقي بها في آتون الواقع العراقي المرير، فتسيح على بعضها البعض؛ لا تعود البراءة بريئة تماماً، ولا يعود الإجرام مطبقاً بالكامل.
الشخصية الرئيسة والغامضة والمجهولة والمخيفة والخائفة في الرواية هي «الشسمة» (الذي لا اسم له)، وهو كائن خرافي غامض أشبه بمخلوق فرانكنشتاين في القصة المشهورة، نتاج أعضاء جسدية مقطعة يلملمها هادي العتاك تاجر الأثاث القديم الذي يعيش في الخربة اليهودية في حي البتاوين ببغداد. هادي العتاك يجمع الأرجل والأيدي المتناثرة جراء العمليات الإرهابية والتفجيرات وإطلاق النار العشوائي هنا وهناك، ثم يخيطها معاً، فينطلق وحش بغداد المخلوق من أعضاء الأبرياء وأجسادهم. يحمل «الشسمة» نفسه مهمة ومسؤولية تبدو واضحة وتتلبس لبوساً بريئاً رغم دموية تطبيقها، لكن ما تلبث أن تظهر بكونها غامضة ومجرمة هي الأخرى أيضاً. يريد «الشسمة»، المتجمع من أطراف الأبرياء المغدورين، أن يثأر لكل الأبرياء الذين يتكون جسده من أعضائهم، فيطارد قاتليهم وغادريهم ومفجريهم. وحالما ينجح في الإطاحة بمجرم ما وينتقم لبريء معين، فإن قطعة الجسد التي تنتمي إلى ذلك البريء والتي أصبحت جزءاً من جسد الوحش تتحلل وتختفي لأن ثأرها قد تحصل. مع ازدياد نجاحات «الشسمة» في الاقتصاص من القتلة السابقين يفقد أذرعه وسيقانه لأنها أطراف لأبرياء، لكن مهمة الانتقام لم تنته بعد. يضطر «الشسمة» للقيام بالقتل حتى يعوض الأطراف التي يفقدها وحتى يتمكن من متابعة مهمته والانتقام من كل القائمة التي وضعها نصب عينيه. يقتل أبرياء جددا ليستخدم أطرافها في جسده كي ينتقم لمقتل الأبرياء القدامى من قاتليهم.
في الصورة الخلفية التي يتحرك فيها «الشسمة» يقلب السعداوي أمام ناظرينا فصولا بغدادية تمور بالحياة والتناقضات والأسى. هناك فصول بغداد الجميلة والمتعايشة، بغداد الزمن الجميل، بمسلميها ومسيحييها ويهودها، بشيعتهم وسنتهم، بعربهم وأكرادهم، كلهم يتنفسون الأزقة القديمة لحي البتاوين والحارات العتيقة لناس بسطاء قفزوا فوق تصنيفات المذاهب والأديان، وعاشوا كبشر. وهناك فصول بغداد البشعة، بغداد الوحش والوحوش، ترتفع بين أحيائها جدران الخرسانة والمتاريس والحواجز كي تفصل بين المناطق بحسب المذهب والانتماء. وعلى هوامشها تنمو الكراهيات الطائفية القاتلة التي تحيل العراق إلى سجن كبير، في عمارة تقطن كل طابق منها طائفة أو مجموعة سياسية بقناعات مختلفة.
في رمزية بليغة يشير السعداوي إلى مجموعات ثلاث من المجانين تسكن ثلاثة طوابق في عمارة واحدة، كأنما هم سجانون لبعضهم البعض لا يتشاركون الجوار والعيش والخطر الواحد. وهناك فصول الاحتلال الأميركي وقبله صدام حسين والسجال ومسوغات الحرب وأين كنا وأين صرنا، وهل نحن في المسار الصحيح للمستقبل؟ وكل الأسئلة ثقيلة الوطأة التي تدور حول ذاتها في صحراء نضبت فيها الأجوبة. بغداد الجميلة صارت بغداد الوحش، خائفة ومخيفة، متعبة ومُتعبة، كل شيء فيها غامض إلا الموت الذي صار هو المؤكد الوحيد. الوحش، «الشسمة»، مخلوق فرانكنشتاين، هو صانع قراراتها والمُتحكم في مصيرها.
شخوص بغداد الذين يعيشون في دائرة الوحش هم نتاج التوحش الذي أنتجه: شخوص متعبون، باهتون، معلقون بين آمال اقتناص الفرص التي جاءت بها الظروف الجديدة وبين ادعاء البراءة والحنين إلى زمن فات، والشك بكل زمن قادم: «م دانيال»، العجوز المسيحية التي غاب ابنها في الحرب العراقية ــ الإيرانية ولم يعد وبقيت تنتظره، تتزوج ابنتاها ماتيلدا وهيلدا وتهاجران إلى استراليا، وتبقى العجوز في أيلولة قريبة من الجنون وهي تنتظر ابنها الذي غاب منذ ثلاثين عاماً كي يعود. العميد سرور، رئيس قسم المتابعة والتدقيق، يمارس توحشه الخاص به عبر الكرسي الذي يجلس عليه، يبالغ في الولاء للحكام الجدد كي يمحو من ذاكرتهم أن ماضيه كان مع غيرهم. كبير المنجمين، يعمل لدى العميد سرور للكشف عن العمليات الإرهابية قبل أن تحدث، ويخلط الأمور عليه وعلينا كقراء، وتصبح الدولة رهينة رعونة المنجمين وخلافاتهم. علي باهر السعداوي، صاحب مجلة الحقيقة، متنفذ، ومتفائل، وحيوي، وغامض في علاقاته، وينتهي نهايات غير معروفه، مثل أشياء كثيرة ضربها داء التوحش. محمود، صحفي في منتصف العشرينات يهاجر من بلدته العمارة إلى بغداد ويعمل مع السعداوي، يسكر بالنجاحات السريعة، ثم يرتقي إلى قمة غادرة حيث تنتظره هاوية لا منجى منها.
فرانكنشتاين أحمد السعدواي هو كائن الموت الخرافي الذي تخلّق بأيدي العراقيين وطوائفهم، وأيدي جماعات التفجير والإرهاب، وأيدي الأميركيين والغرب، وأيدي العرب وإيران، لكن كل طرف من هؤلاء يتهم الآخر بكونه الوحش ويحيل عليه مسؤولية الدم والموت، وبواسطته يبرئ كل منهم نفسه من المسؤولية. يعيش «الشسمة» بينهم وينام في غرفهم، ويكون شبيهاً بهم وبمن يحبون. ثم يطاردونه. إنه الكائن البشع الأسطوري الذي يتشاركون في كراهيته، لكنهم لا يجرؤون على الاعتراف بأنهم جميعاً تشاركوا في صناعته وتخليقه ورعايته.
وحش بغداد !!
بقلم : د.خالد الحروب ... 04.04.2014