عندما تقوم الآلة العسكرية الصهيونية بإحراق حوالي 500 طفل ابتداء من الجنين في بطن أمه، فهذه ليست هزيمة عابرة بل هي هزيمة استراتيجية تاريخية للكيان الصهيوني منذ تأسيسه في فلسطين.
قتل وإحراق هذا العدد الهائل من الأطفال لم يكن له سابقة في جميع الحروب بين إسرائيل والعرب منذ عام النكبة، صحيح كان هناك مجازر سقط فيها أطفال ونساء وشيوخ وعمال وفلاحون، صحيح كان هناك حصارات وقصف عشوائي على المدنيين، صحيح لا ننسى قصف مدرسة بحر البقر في حرب الإستنزاف مع مصر في أبريل عام 1970 والتي استشهد فيها أكثر من ثلاثين طفلا مصريًا وجرح أكثر من خمسين، وزعمت إسرائيل وقتئذ بالضبط ما تزعمه الآن في مجازر غزة بأن المدرسة استخدمت كموقع عسكري، وكانت وسيلة للضغط على مصر لقبول وقف حرب الإستنزاف التي كلفت إسرائيل غاليًا.
إلا أنها المرة الأولى في تاريخ الحروب الصهيونية التي يحصد جيشها فيها هذا العدد الهائل من الأطفال بهدف تحقيق إنجازات عسكرية.
منذ اليوم الأول للحرب بدأ «المحللون» ومعظمهم قادة عسكريون وقادة مخابرات سابقون ومسؤولون كبار يتحدثون عن أملهم وتوقعاتهم بأن يثمر قتل المدنيين بقيام الشعب الغزاوي على المقاومة، وأن يحوّل جام غضبه عليها، بعض هؤلاء نصح بالمزيد من التدمير والتقتيل كورقة ضغط لا مناص من استخدامها، لأنه وبحسب رأيهم أن المقاومة تختبئ تحت الأرض، وكأن عليها أن تنتظر قذائفهم بصدور رحبة مفتوحة فوق الأرض! وطبعا لم ينس هؤلاء المحللون بعد كل حصيلة من القتلى المدنيين التي تجاوزت أحيانًا المائة في اليوم الواحد التأكيد على أمر بات يعرفه العالم وهو «أخلاق جيش إسرائيل الرفيعة التي لا مثيل لها في العالم والدليل هو ما يحدث في العالم العربي،وخصوصًا في سوريا والعراق حيث يُذبح المدنيون في أعداد أكبر من هذه التي نذبحها نحن هنا، ولهذا يحل لنا ذبح المدنيين على الأقل مثلما يذبح العرب إخوانهم العرب، كذلك ضربوا مثلا تعامل السيسي مع الإخوان في مصر بالقتل والسجن وأحكام الإعدام وبهذا يكون شريكنا في الحرب على الإرهاب الإسلامي».
وقد ساندهم عرب برؤيتهم وتخندقوا الى جانبهم فعبر بعضهم عن عواطفه تجاه أطفال ونساء وشيوخ غزة وراح يحرّض على المقاومة «التي تستغل دماء الأبرياء».
في مرات سابقة وبعد مجازر مشابهة زعمت إسرائيل أن ما حدث هو خطأ مثل مجزرة (قانا) في جنوب لبنان والتي نفذت ضد مدنيين لجأوا إلى موقع للأمم المتحدة وراح ضحيتها 106 من المدنيين. هذه المرة كان الأطفال والمدنيون هدفًا واضحًا لا لبس فيه لقذائف الطن والنصف طن بدون الإدعاء بوقوع خطأ وذلك بهدف عسكري واضح هوتأليب الضحايا وذويهم على المقاومة وإرباكها وتشكيل عبئ عليها وعلى شبكة الخدمات الإنسانية الضعيفة أصلا بسبب الحصار الطويل، وقد حجب الإعلام الإسرائيلي طيلة أيام الحرب صور المجازر والطفولة المحروقة، ولم يعرضوا سوى صورعن معاناة أطفال إسرائيل المحصورين في المناطق الآمنة لحظة إطلاق صفارات الإنذار أو الذين اضطروا للنزوح إلى مناطق آمنة شمالا، ومعاناة الناقهين الإسرائيليين في المطارات بسبب توقف بعض رحلات الطيران، ولحسن الحظ أنه لم يقتل أي طفل يهودي وإلا لوُضع الفلسطينيون والعرب والمسلمون في مقام واحد مع هتلر ومصاصي الدماء ليس فقط من قبل إسرائيل وأمريكا وأوروبا بل من قبل كثير من العرب أنفسهم.
الجديد في هذال العدوان هو تحويل قتل المدنيين إلى عمل حربي عادي وشرعنته بعدما كان يحدث بطريق»الخطأ»، ويبدو أن قادة جيش إسرائيل أخذوا إلهامهم هذا من الدول الشقيقة مثل سوريا والعراق.
كذلك فقد أصبح تعبير «مكافحة الإرهاب الإسلامي» رخصة بالقتل والهدم والتدمير وتلتقي إسرائيل بهذا مع الأنظمة التي تحارب شعوبها المطالبة بحريتها بالحجة نفسها ،وقد أعلن قادة إسرائيل طيلة أيام الحرب عن سعادتهم بحلفائهم العرب المعنيين مثلهم بالقضاء على الإسلام السياسي الذي يتفرع كله من حركة الإخوان المسلمين حسب رأيهم،وهو خلط واضح للأوراق بين حركة تحرر وطني تقاوم احتلالا وعدوانا مستمرًا منذ عقود وتدافع عن حق شعبها بالحياة والحرية وبين تنظيم إرهابي مثل داعش يقتل الناس إرهابًا ويعيث في الأرض فسادًا حيثما حلّ.
التخلص من 500 طفل وحوالي 300 من النساء ومئات أخرى من الرجال والشيوخ وجرح الآلاف من المدنيين يعني أنها حرب إبادة منهجية متكررة ضد الشعب الفلسطيني،هذه هي الحقيقة، وصدق السيد رجب طيب أردوغان حين أكدها وكذلك قادة معظم دول أمريكا الجنوبية الذين استدعوا سفراءهم احتجاجا على مجازر إسرائيل ووضعها على لائحة الإرهاب.
أما العرب الذين حرّضوا على المقاومة قدر إمكانهم ومن يقيمون علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ولم تهزهم كل هذه الجرائم فهم شركاء في الجريمة، ولن يغفر لهم إظهار التعاطف مع شعب غزة والتباكي على دماء الضحايا في الوقت الذي يطعنون فيه ظهر المقاومة بوقاحة الإدعاء بأن المقاومة تتاجر بالدم وغيرها من مقولات يقصد بها تحميل الضحية وزر جريمة المجرمين السفاحين.
أما النفاق الأمريكي والأوروبي والتلون فقد بلغ ذروته في الندب على ضابط أسر أو قتل في أرض المعركة والتنكر لمجزرة بحق المدنيين جاءت ردًا على مقتله في عهر مثير للتقيؤ، إضافة لهذا فإن تردد السلطة في رام الله بالتوقيع على اتفاق روما والتهاون في تقرير غولدستون منذ العدوان عام 2009 على غزة، فتح شهية قادة إسرائيل على المزيد من العدوان والإستهتار بدماء لا يحاسبون على إراقتها.
نعم في المواجهة العسكرية بين المقاتلين هزم جيش إسرائيل ولم يستطع تحمل ضربات المقاومين وبسالتهم التي ستحكي عنها أجيال، إلا أن الهزيمة الإستراتيجية الأكبر لإسرائيل هي قتل هذا العدد الأكبر من الأطفال، هذه محرقة لن تمحوها السنين ولا اتفاقات ولا سلام افتراضي قد يحصل في يوم ما، وللمقارنة فإن عدد ضحايا مجزرة (ماي لاي) التي ارتكبتها القوات الأمريكية في فيتنام عام 1968 بلغ من 300 إلى 500 إنسان من جميع الأعمار، ومجزرة دير ياسين الشهيرة عام النكبة كان عدد ضحاياها ما بين 250 إلى 300 إنسان. علينا أن نسمي ما حدث باسمه، إنها المحرقة الصهيونية للفلسطينيين، والتاريخ الذي سيكتبه الشرفاء لن ينسى لا المجرمين السفاحين ولا المتخاذلين ولا المتآمرين، ولا أولئك الحكام الذين جعلوا دماء الأطفال العرب رخيصة ومستباحة بهذه الصورة..
محرقة أطفال غزة هزيمة استراتيجية للحركة الصهيونية!!
بقلم : سهيل كيوان ... 07.08.2014