قد نرى في الأنظمة الديمقراطية مع كل المآخذ على سياساتها الخارجية، رئيس دولة عظمى مثل بيل كلينتون عازفاً للسكسفون، لا يخجل من العزف أمام جمهوره، ورأينا الراحل الكبير نيلسون منديلا يرقص مع شعبه رقصات فلكلورية، وهي ليست مثل رقصات السيوف مع جورج دبليو بوش تحت السرادق الملكي وبحراسة جيوش بأكملها، وكان الراحل الفنزويلي هيغو تشافيز يغني أمام الجماهير أثناء خطاباته، إذا ما خطر له ذلك، ويقدم برنامجاً تلفزيونياً ترفيهياً، وقد يتقن بعضهم الرقص أو الرسم أو أي فن آخر.
الفن الوحيد الذي مارسه بعض قدماء الحكام العرب هو الشعر (معظمه ركيك) باستثناء قصائد قليلة منها قصيدة «وأمطرت لؤلؤاً» ليزيد بن معاوية وهناك شكوك بأنها ليست له، وتنسب لشاعر يدعى (الوأواء الدمشقي)، أو الخطابة التي استخدمت إما للوعظ وإما للتهديد والوعيد، مثل خطبة الحجاج بن يوسف الشهيرة، لأهمية الشعر والخطابة في الحياة العربية، وذلك أن من يحكم بالقوة ويصل السلطة بالبارود أو من رحم أمه مباشرة لا يمكن أن تكون لديه حساسية فنية، بل ويعتبرها ضعفاً وهو أحوج ما يكون للقوة وإظهارها للشعب كي يرتدع، فما أخذ بالقوة لا يمكن الاحتفاظ به إلا بالقوة، ويعتبر الفن وخصوصاً التمثيل من اختصاص الفئات الشعبية البعيدة جدا عن العائلات الحاكمة أو القريبة منها.
قبل أسبوع نشر خبر عن سجن الفنانة السورية سمر كوكش لمدة خمس سنوات، بحكم أصدرته ما تسمى «محكمة الإرهاب» في دمشق، وهي معتقلة منذ عام في ما يسمى فرع «215» المعروف بوحشيته لدى السوريين.
وسبق كوكش إلى سجن النظام عدد من الفنانات والفنانين السوريين، كذلك أطلق سراح بعضهم بعد اعتقال وترويض أو تعهد بعدم الجهر بالمعارضة، لأن الجهر بالكفر أهون منها، بالتأكيد تحت ضغط الإرهاب الرسمي المنظم.
الطريف بل المؤلم هو تعقيب البعض على خبر سجن سمر كوكش بالقول «إن كوكش لو وقعت بيد المعارضة لكان مصيرها الذبح هي وأمثالها».
هذا يلخص الكارثة التي حلت بسوريا، إما الرضى بالمجرم أو سيأتيكم من هو أكثر وأشد إجراما، فلا مكان للوسطية أو الاعتدال، بل أن جميع المشاركين في تدمير سوريا يعملون على ضرب الاعتدال وإضعافه، فإرهاب النظام يقابله إرهاب «داعش» وهذا يخدم مصالح الجميع.
لعل أشهر فناني سوريا، الذي دفع ثمن فنه، هو المعارض إبراهيم القاشوش الذي كان من بواكير المذبوحين بيد شبيحة النظام، التي أصبحت طوفاناً في ما بعد ومن جميع الأطراف، وذلك بسبب أغنيته الشعبية التي هزئ فيها من بشار.
في مصر انقسم الفنانون، فمنهم من ما زال حافظاً للنعمة (الرشوة) التي أسبغت عليه في عهد مبارك، فظل مخلصاً له بعد سجنه، ومنهم من انتصر للثورة المصرية منذ بدايتها، وأعلن دعمه للثورة مثل، عمر واكد وأحمد حلمي وخالد يوسف، ثم تبعهم آخرون بتأخر كبير، ومعظمهم خشي من الإخوان المسلمين وحكمهم وانتصر للسيسي، خوفاً على الفن والفنانين من الانحسار أمام موجة دينية جارفة.
في بلاد العرب الكلمة أو الصورة أو المشهد الذي يتضمن موقفاً ضد النظام يعني قطع الرزق أو السجن وحتى العذاب والموت، والسكوت خوفاً قد يفسر بأنه رضا من النظام، وهكذا اختلطت أوراق الفن مثلما اختلطت أوراق السياسة بسبب الخوف والقهر.
النظام لا يرحم معارضاً فناناً أو غير فنان حتى لو لم يحمل سلاحاً، كما حدث لسمر كوكش، وداعش لن يرحم فناناً لا معارضاً ولا مؤيداً لأنه مع التحريم من أصله، والفن الحقيقي الذي يستمع لنبض الناس والذي يطمح لحرية الإنسان وكرامته واحترام خصوصيته هُمش ولا يكاد يسمع له صوت، فإما معنا أو ضدنا، ضدنا نذبحك أو نسجنك، ومعنا تقتلك «داعش» أو تسقط برصاص المعارضة، كما حدث للممثل فهد نجار قبل أيام، الذي انقسم الجمهور بين تسميته شهيداً أم قتيلاً، فقد كان من شبيحة النظام، كما يقول مواطنون سوريون، وله مساهماته في القتل والقذارة، بينما يقول أنصار النظام إنه نذر نفسه لمحاربة «الإرهاب».
لا شك في أن الفنان بالضرورة ضد الإرهاب، لا يمكن أن تكون فناناً وإرهابياً أو داعماً للإرهاب في الوقت ذاته، كما لا يمكن أن تكون فناناً وديكتاتوراً أو مؤمناً بالديكتاتورية ومناصراً لها، فما بالك بأن تكون فناناً شبيحاً! الفنان الوحيد الذي انضم لتنظيم إرهابي هو (فضل شاكر) بعدما غُسل دماغه واعتزل الفن، وأعتقد أن فضل شاكر سيندم بل هو نادم على خطوته المتطرفة، فالفن لا يتعارض مع الإيمان، لو كان إيماناً طبيعياٍ فطرياً، ولم يأت نتيجة لظرف طارئ خاص جدا.
فنانون وكتاب كثيرون حاولوا محاربة ظاهرة الإرهاب، إلا أن تعريف الإرهاب اختلط وتلاعب به المتلاعبون، فاتسعت دائرة من عُرّفوا كإرهابيين حتى شملت كل معارض، والتقى في محاربة «الإرهاب» الملك والديكتاتور والانقلابي ومدعي الديمقراطية والمحتل تحت رعاية دولة عظمى اعتقلت وقتلت هي نفسها مئات آلاف الأبرياء في الوطن العربي تحت مسمى»محاربة الإرهاب».
عندما مر أمامي اسم الفنانة سمر كوكش لم أعرف من هي بالضبط إلا عندما رأيت صورها، ولكن في البحث تبين أنها فنانة مهمة على الساحة السورية، ولها كثير من المسرحيات والمسلسلات، وهي ابنة للمخرج علاء الدين كوكش والممثلة الراحلة ملك سكر التي نذكرها من مسرحية «ضيعة تشرين» مع دريد لحام ونهاد قلعي.
سجن فنانة لخمس سنوات بتهمة تمويل الإرهاب هو حكم جائر بلا شك، وقد خطر في بالي عند قراءة الخبر محاربة الحركة الإسلامية في مناطق 48 ومصادرة أموالها قبل سنوات من قبل حكومة إسرائيل بتهمة دعم وتمويل الإرهاب، لأنها كفلت أيتاماً ومنهم أبناء شهداء، لا أظن أن تمويل الإرهاب على يد سمر كوكش يتجاوز كيس طحين أو أرز أو ما تيسر من مال كتبرع لجمعية خيرية، فللإرهاب الرسمي مصادره الكبيرة من دماء الشعب وتعبه وله إيران وموسكو، كذلك للإرهاب الداعشي نفطه وبتروله وموارده التي لا تحتاج إلى سمر كوكش ولا أمثالها من الفنانين الشرفاء، تحية لك يا أخت سمر في ظلمة سجنك، وفرج الله كربتك، وإذا كتبت لك الحياة والحرية بإذن الله والشعب، فسوف نعرف الحقيقة عنك وعن إخوانك وأخواتك ومئات الآلاف من المعتقلين وما مر عليهم من ظلم وقهر ودوس للقيم الإنسانية باسم الكذبة الكبرى «محاربة الإرهاب».
إلى الفنانة سمر كوكش في سجنها…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 31.12.2014