كلما قرأت قصة الأسد (سلطان) الذي قتل مدربه المصري محمد الحلو توقفت عندها. (سلطان) انقض على مدربه عندما التفت ليرد على تحية الجمهور، ضربه ضربة هائلة وأصابه بجروح قاتلة، (محمد الحلو) ابن الأسرة العريقة المؤسِسة للسيرك القومي المصري والعربي عموما، نُقل إلى المستشفى، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أوصى بأن يواصلوا معاملة الأسد (سلطان) معاملة كريمة، وأن لا يؤذوه. نقل الوحش (سلطان) إلى حديقة الحيوان وهو مصاب بحالة اكتئاب، أحضروا له لبؤة لتسري عنه وتبدل له مزاجه، إلا أنه رفض الطعام وبقي مكتئبا، وما لبث أن راح ينهش يده التي قتل بها صاحبه ومدربه ونزف منها حتى مات،لا شك أن قصته أثرت بالملايين، وأبكت الكثيرين.
كلما قرأت قصة (سلطان) أشعر بنبل هذا الوحش، وسمو روحه، أتضامن معه وأشعر بأن أمرا غامضا نبيلا يعيش في الإنسان والحيوان نسميه الضمير، قد يغيب هذا عن كثير من البشر، وقد يظهر في حيوانات ووحوش برية، وبفضل وسائل الاتصال الحديثة، صرنا نرى حيوانات يرتقي بعضها في مشاعره إلى مستوى البشر ويزيد، فنرى نمرا يحمي قردا وليدا من الموت ويضمه كأنما ليطمئنه، ونرى أسدا يتراجع أمام غزالة تدافع عن ابنها، تنازلا منه ومكافأة للأم التي دافعت بمشاعر الأمومة عن صغيرها.
والأسد يذكر بالأسد الذي أبكى ملايين السوريين والعرب، ثمنا لغروره وجنون شهوة السلطة التي تملكته هو ومن حوله.
قرأت قبل أيام كتاب (ثورة امرأة)، للصحافية السورية (علا عباس)، التي أنبها ضميرها فانشقت عن النظام المجرم في تموز 2012. الكتاب شهادة من داخل جهاز الإعلام التابع للنظام ومن بطانته، تشهد فيه أن النظام عمل المستحيل لدمغ الثورة بالإرهاب من خلال تزييف الحقائق على الأرض وفبركة الشواهد والشهود والأحداث، بدءا من مجزرة المسجد العمري في درعا، ودأبه على زرع الفتنة بين الطوائف، وتخويف الأقليات والعالم من أن الثورة دينية سلفية طائفية سنية ستأتي على الأخضر واليابس، حتى زعم أن أطفالا في الثالثة عشرة» لم يعرفوا العادة السرية بعد» كانوا يريدون اغتصاب نساء الموالين للنظام، وقام هذا الإعلام بفبركة اعترافات من أبرياء بأنهم إرهابيون، حتى أن العاملين في التلفزيون كانوا يعيدون مونتاج بعضها مرات ومرات (حتى تزبط)، وبعضها لم يزبط بسبب أخطاء في التصوير أو عدم قدرة بعض «المعترفين» على حفظ ما يلقنه المحققون لهم ليقولوه أمام الكاميرا، أحدهم مريض نفسي معروف ومع وثائق، أخذوا منه اعترافات بأنه تلقى أموالا وسلاحا للقيام بأعمال تخريبية وعرضوه على الناس لعدة أيام.
تتحدث الكاتبة عن الإعلام الموجه المنحاز كليا لكذب النظام، فلا يستطيع دخول الجهاز إلا الموالون وأقرباؤهم وأنسباؤهم وعشيقاتهم ومخابراتهم.
استيقظ ضمير السيدة (علا عباس)، مثل كثيرين، ونجحت بالفرار قبل أن تعتقل وتعاقب شر عقوبة، إلا أن كثيرين قتلوا أو سجنوا ثم قتلوا أو ما زالوا سجناء ولم يستطيعوا النجاة بجلودهم، ووقعت مجازر كثيرة بحق جنود حاولوا الانشقاق، وبحق مدنيين أعلنوا ثورتهم سلميا أو تعاطفوا مع الثوار، وذبحوا أطفالا تارة للإرهاب، وتارة لتأكيد رواية النظام لدمغ الثورة بالإرهاب، وما زال الكذب مستمرا، وما زالت المجازر مستمرة، وما زالت الفبركات مستمرة مثل اللقاءات الصحافية مع سيدات سجينات يمتدحن معاملة النظام لهن.
مضمون شهادة علا عباس يعرفه أكثرية الناس، ولكن أهمية شهادة (علا عباس) تأتي كونها ابنة النظام وتنتمي للطائفة العلوية، وحلمت مثل غيرها بوطن ينعم الجميع فيه بالحرية والعدل والمساواة والفرص بدون تمييز وفساد ونفاق.
لقد حاول بعض مؤيدي النظام الانتقاص من خطوة (علا عباس) في حينه، وتساءلوا لماذا لم تنشق من قبل وأين كانت، ولماذا سكتت!علما أنهم يعرفون أن الانشقاق أو حتى الحديث عن جرائم النظام داخل سوريا لا يعني سوى الموت.
تذكر الصحفية محاولة النظام إشعال الفتنة بين الدروز والسنة منذ بداية الثورة عندما قام رجال النظام بنشر الفيديو الشهير لشيخ سني في درعا، يتحدث عن النساء الدرزيات بصورة حقيرة، الأمر الذي مس بمشاعر الدروز، تؤكد (علا عباس) ما يعرفه الكثيرون أن الشيخ صاحب هذه الخطبة هو شيخ مخابراتي معروف، وقام بتسليم كثيرين من شبان درعا الثائرين إلى الأجهزة الأمنية!
في كتابها هذا الصادر في العام 2014، المليء بالأخطاء الطباعية، والذي من الواضح أنه لم يمر بعملية تنقيح، تحكي تجربة شخصية إنسانية اجتماعية، في بلد ابتلي بنظام شمولي، يعيش تناقضاته بين العلمانية والتخلف والمحافظة الشديدة، والتقوقع والحزبية القومية التي تحولت إلى قناع لطائفية يقودها نظام شمولي تحول إلى عبادة الفرد المتمثلة بداية بالأسد الأب ثم بأبناء أسرته حتى بشار.
بعد أربع سنوات من انطلاق الثورة السورية نرى أن النظام نجح في خطته الشيطانية والتي حذر الكثيرون منها منذ البداية، نجح بوضع جميع الطوائف، وخصوصا الأقليات، في حالة خوف ورعب من الآخر، وعزز هذا الشعور الانحراف عن القاعدة التي انطلقت الثورة منها، وقويت الأصوات الطائفية، وتمت تغذية النزعة الإرهابية من خلال «داعش»، نجح النظام ومعه المتآمرون من سوريا وخارجها ليس فقط على الثورة السورية بل على الربيع العربي كله بحرف قوى لا يستهان بها عن طريق الثورة، هذه القوى هي نفسها التي حاولت وتحاول أن تخرب على شعب تونس قطف ثمار ثورته من خلال العملية الإرهابية في متحف باردو.
نجح النظام بقتل الكثير من الضمائر وأعاد البشر إلى مرحلة الوحشية، أطلق الغرائز التي تم تهذيبها عبر آلاف السنين في بني البشر، وأيقظها من خلال ممارساته الدموية المقصودة بإحكام. السؤال الذي يســـأل الآن، ماذا بعد؟ كيف يمكن لنظام زرع الإرهاب في كل مكان وعزز الطائفــــية واستخدمها كوسيلة وركيزة الاستمرار في حكم بلد لا تشكل طائفته أكثر من 6٪ من سكانه؟ الإجابة واضحة: المزيد من العنف والإرهاب والفتن، ولهذا لن يكون الخلاص والخروج من هذا النفق المعتم إلا بيد الثوار الحقيقيين أنفسهم، بأن يستعيدوا امتلاك ثورتهم، فهم القادرون على تخليص الشعب السوري بكل طوائفه، وإيقاظ الضمائر من خلال العودة إلى ثوابت الثورة الأصيلة الوطنيـــة والقومية الاجتماعية غير الطائفية، وإعادة الأمل إلى قلوب كل السوريين والعرب بأن الثورة مستمرة كما بدأت، وهي ليست عمليات ثأر ولا إرهاب، والتأكيد على أن النظــــام وحده هو الإرهابي الحقيقي، وهو الذي يتحمل مسؤولية الجرائم التي مورســـت وما زالت تمارس بحق سوريا وشعبها، وليس أبناء مذهب أو طائفة، لا علوية ولا مسيحية ولا درزية ولا إسماعيلية ولا سنية أو حيدرية ولا غيرها.
الأسد الذي أبكى الملايين…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.03.2015