قبل حوالي شهرين هاتفني صديق (من أيام اللولو)، وقال إنه قادم ليسهر عندي وبرفقته ضيف. رحبت بهما، وتوقعت أن يكون الضيف شخصا أعرفه ويعرفني، ولكن عندما وصلا، دخل وبمعيته شاب أفريقي شديد السمرة،عرفني عليه…»(آدم) شاب سوداني من دارفور يعمل في بلدتنا في البناء».»أهلا وسهلا»…ثم مازحت (آدم) قائلا:»هل تعرف الشاعر السوداني الهادي آدم! الذي كتب لأم كلثوم كلمات أغنية (أغدا ألقاك)»! ثم استرسلت في الحديث عن عبقرية اللواء محمد عبدالوهاب، الذي لحنها مطعمة بإيقاع أفريقي، يشبه ذاك الذي يَطرب ويرقص عليه المشير عمر حسن البشير.
قرأت «موسم الهجرة إلى الشمال» منذ شبابي الأول، ولكنني لم أتخيل للحظة أن ألتقي بمئات من السودانيين في سهول قرى الجليل في شمال فلسطين، عملوا ويعملون في الزراعة والبناء، معظمهم هاربون من جحيم إقليم (دارفور)، طموحهم أن يعيشوا بأمان، آلاف منهم بقوا في تل أبيب وإيلات بإقامة مؤقتة، ولكن أعدادا تقدر بعشرات الآلاف من الأفارقة تم ترحيلهم بعد اعتقالهم في مجمعات صحراوية.
وصل مئات منهم إلى القرى العربية، فأقاموا في سهولها في تخشيبات كبيرة من الزنك وعملوا بالفلاحة والبناء، بعد الحصول على إقامات مؤقتة تجدد كل ثلاثة أشهر. كانوا عربا وغير عرب، مسلمين ومسيحيين ولادينيين، يختلطون بحياء وريبة مع السكان المحليين، في صعود وهبوط حسب مزاجيات هذا أو ذاك، وفي يوم الجمعة يذهبون زرافات إلى المسجد لصلاة الجمعة مسلمين وغير مسلمين، ليكسبوا الحسنات وتعاطف الناس، وقد زُف أحدهم لفتاة محلية بالرفاه والبنين، وصار له ما لنا من خيار وفقوس وكوسا وبطيخ وذرة، وعليه ما علينا من (أكِل هوا).
قصة (آدم)، شبيهة بقصص الكثيرين منهم، من السودان إلى مصر، أو من السودان فليبيا فمصر،حيث يتلقفهم المهربون، ويبتزونهم بمبالغ جمعوها بشقاء سنين، أو بعد بيع ممتلكاتهم، ثم يصلون إلى سيناء، ومنها إلى فلسطين، وقد تعرض كثيرون منهم للنصب والنهب، ومنهم من رأى زملاء له يُقتلون من قبل قطاع طرق، أو يُصلبون برصاص مصري – إسرائيلي على شريط الحدود بين سيناء ونقب فلسطين، ومنهم من اعتقل ثم أعيد تهجيره.
تذكرت هؤلاء «الغلابى» عندما فاز المشير عمر حسن البشير برئاسة بلاده في الانتخابات الأخيرة، بنسبة تشبه تحصيل طلاب الابتدائية المجتهدين وصلت إلى 94.5٪ من الأصوات. قلت لنفسي لماذا لا يكتب عظماء أمتنا أمثال المشير البشير مذكراتهم، كي يعرف العالم أسباب هذا النجاح وهذه الشعبية الجارفة! هناك بلا شك عبقرية وراء هذا القائد الملهم، انقلاب عسكري عام 1989، ثم الاحتفاظ بالسلطة في بحر متلاطم من الأعاصير والزلازل المحلية والدولية والحروب والغزوات، والاتهامات بارتكاب جرائم حرب، والتعرض لأكثر من محاولة انقلابية، والزج بحلفائه السابقين في السجون أو تحت إقامات الجبر أو في ظلام القبر، ثم وَعده لشعبه بعدم الترشح عام 2014، ثم نقض الوعد والانقلاب على نفسه كالعادة العربية الأصيلة، والترشح من جديد، وأخيرا المفاجأة العظمى، فوزه من جديد بالنسبة العربية الفولكلورية، يتخلل كل هذا رقص بعصا المارشال.
ليس سهلا إعادة انتخاب رئيس بعد فشل في إدارة أزمة كهزة أرضية في نيبال مثلا، فكيف بإعادة انتخابه بعد كوارث عسكرية واقتصادية وتهم بارتكاب جرائم حرب تشمل الاغتصاب واضطراره لإلغاء سفره إلى أندونيسيا خشية الاعتقال، وهروب جماعي للناس من الوطن! لكن المبهر في الأمر هو الفوز بانتخابات نزيهة (وكلكم تعرفون نزيهة)!! الأمر الذي يقطع الشك باليقين أننا أمام إعجاز عبقري.
حضرة القائد المشير الفذ عمر حسن البشير، إن تجربتك لا تضاهيها تجربة على صعيد العالم من حيث غناها وتنوعها، وبالتأكيد تحتاجها الشعوب والأمم لدراستها والتعلم منها، ويجب توثيقها، فقد ترحل فجأة لا سمح الله، لأن الأعمار بيد الله كما تعلم حضرتك وكما كنت تؤكد لجنودك، وقد تسجن فجأة، كما سَجنتَ غيرك فالسجون أيضا بيد الله، ورب محاولة انقلابية تنجح من حيث لا تحتسب! وقد يحرمك اللئام من الأقلام والأوراق والأفلام، حينئذ تخسر البشرية جمعاء تجربة لا تظهر إلا مرة كل مئة ألف سنة مما تعدون. نعم من حق الأجيال القادمة على سطح كوكبنا الجميل أن تعرف من عاش هنا وكيف صُنع كل هذا الإعجاز!
وما يؤكد نظريتي، بأنه إعجاز علمي وروحاني، أن هذا الفوز حصل بدون رشوة للشعب لا سمح الله، فمستوى الحياة في تدهور مستمر، والبطالة والعنصرية والصراعات العرقية والدينية ما زالت مضطرمة! والهجرة إلى بحار وصحارى ومعتقلات الآخرين على قدم وقارب، حتى إلى إسرائيل الصهيونية!
هذا الإعجاز القيادي لم يحققه حتى من صنعوا بلدانهم وغزوا الفضاء والبحار وبنوا السدود وحفروا عشرات الأميال من الأنفاق فقلتوا المسافات ورفعــــوا المنخفضات وخفضوا المرتفعات وجعلوا الأرصفة والحمامات العمومية في بلدانهم مثل قاعة القصر الجمهوري عند حضرتك نظافة وعناية، وصارت بلدانهم قِبلة عشرات ملايين السائحين من شتى أرجاء الأرض سنويا، وحولوا حياة الناس إلى مهرجان من السعادة والرخاء، وجعلوا جوازات سفر بلدانهم غاية صعبة المنال إلا للصادقين والمنفقين، يتمناها الناس من كل الألوان والأجناس، بينما يدفع مواطنوك شقاء العمر ليلقوا بأنفسهم إلى وحوش الصحارى والبحار! ورغم ذلك تأبى شعبيتك إلا أن تتفوق، فيحقد الحاقدون ويخسأ الخاسئون!
بعض رؤساء دول العالم نكرات لا نعرف أسماءهم، أغلقوا السجون في بلدانهم لعدم وجود زبــــائن، وتحـــتل جامعات بلادهم مراتب مرموقة على مستوى العالم، ويفاجئون البشرية كل أسبوع بكشف علمي جديد أصبح روتينا، ومشغولون بكيفية التعامل مع الهجرات التي تصلهم من أمثـــال سيادتك وسيادة بعض زملائك الأفارقة والعرب، ورغم ذلك ليس لهم شعبية بشير أو بشار أو لواء أو مشير! أليس في هذا عبرة لقوم لا يرقصون فيغرقون!
لا أعرف لماذا يبخل حكام أمتنا على شعوبهم وعلى البشرية بكتابة سِيَرهم الذاتية، التي بلا شك ستفيد الحضارات المستقبلية، على الأقل في الكشف عن أسرار حياة الديناصورات والماموثات وشبيهات الكركدن ذات الصوف والأسماك الفكية واللافكية المدرعة.
الإعجاز المثير في حكم البشير!!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.04.2015