عندما ركبت الطائرة أول مرة قبل سنين كثيرة، لم أشعر بالخوف، رغم المطر والغيوم والمطبات والطائرة القديمة التي بدت من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولكن في مرحلة ما من عمري، ولسبب غامض حدث تحول ما، صار دماغي يرعبني بصور يبدعها رغما عني، دماغي لم يجد ما يتخيله سوى انفجار الطائرة في الأعالي!
المشكلة مع دماغي أنه لا يميتني فورا بعد الانفجار، بل يبقيني حيًا بسادية ووحشية، أخترق الغيوم وأسقط في البحر، وما أقسى مواجهة أسماك القرش وأنت صفر اليدين، فهي لا ترحم ولا تفهم مشاعر إنسان تنتظره أسرته، ولا يهمها أن لك أحبابا سيتألمون كثيرا إذا لم يعثروا على جثتك! كنت أحاول مواجهة دماغي بحقائق علمية عن ندرة حوادث الطيران، مقارنة بحوادث الطرق، وأسوق له معادلات فيزيائية بسيطة تؤكد، بدون أدنى شك، أنني لن أصل يابسة ولا ماء، وأنه هو نفسه (دماغي) سينفجر، ولن أشعر بعدها بشيء! إلا أن دماغي كان يتفنن بتعذيبي، فينقلني من البحر إلى اليابسة، ليجعلني فريسة لضباع متضورة جوعا، تنتظرني أنا بالذات لتناول رزقها المقدر لها. كنت أسقط من الأعالي الشاهقة وأرتطم بالأرض ولا أموت، وعلى مهلها تقترب مني وتلتهمني حتى أسمع طحن عظامي بين أنيابهwwا، وتخنقني وهي تلعق عنقي ووجهي برائحتها الكريهة.
كنت أكابر وأرفض حبة المهدئ أو المنوّم التي ينصح بها البعض!
أحاول إيجاد حل وسط مع دماغي، فأدفعه إلى مسار آخر غير الإرهاب، أستدرجه، نتفق على سقوط الطائرة ولكن بشكل تدريجي، بسبب عطل فني مثلا، ليكون السقوط فوق غابة موز أو بيارة حمضيات أو أفوكادو، أو في غابة كثيفة، هكذا كنت أبقي نفسي سالماً بطريقة ما، وأبقي معي إحدى المضيفات احتياطا، لمواصلة الخدمة اللطيفة، بعد أن أعزيها برحيل زملائها من الطاقم! وحينئذ تهاجمنا الآناكوندا، فأهرب من الفكرة مذهولا!
كنت أحاول مقاومة وحشية دماغي وساديته بتلاوة دعاء السفر، (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين..إلخ) وأعيد تلاوة آية الكرسي، والفاتحة، والإخلاص، والمعوّذتين.. مئات المرات، لكن كنت أكابر، فلا أحرك شفتي، كي لا أنبّه مَن حولي لحالة الخوف المتمكنة مني!
أرفض الضيافة المقدمة من طعام وشراب (من له شهية أصلا)! بصعوبة أتفوّه بشكر المضيفة التي ستشاركني مغامرة السقوط في غابة الموز، تفهم أنني مرتعب جدا فتبتسم، أقول لنفسي.. ها هي تبتسم وكأنهـــا في صالون بيــــتها، آه لو تعرف أين كانت معي قبل لحظات! ولكن ابتسامتها لا تنجح بطمأنتي. فقد حكى لي صــــديق مرة أن المضيفة نفسها صارت تولول وطلبت من المسافرين الصـــلاة، كل حسب معتقده، عندما وصل بلاغ بأن على متن الطائرة جسما مشبوها وأنها ستهبط اضطراريا، سَقطتْ مغشـــيّا عليها أمام المسافــــرين! لهذا صــــرت أنظر إلى ابتساماتهن كإجراء من ضرورات العمل، وأنهن يعملن بهذا العمل «الخطر» لإخراج أسرهن من الفقر، وفي حال وقوع مشكلة جدّية، فهن أول من سيفقدن رشدهن.
كنت أحسد محدودي الخيال، وذوي الأعصاب الباردة، وأستغرب من احتجاج بعضهم على نوعية وجبة الطعام المقدمة، كيف يفكرون بنوعية الضيافة، بينما نحن أنفسنا، قد نحل ضيوفا كوجبات للضباع وأسماك القرش والآناكوندا خلال لحظات!
أتنفس الصعداء بحذر، لمجرد اقتراب الطائرة فوق مدينة ما، حيث لا قرش ولا ضباع، هنا سيعثرون على جثتي على حبل غسيل في الطابق الحادي عشر، تطل سيدة جميلة من نافذة حمامها وتتناولني عن الحبل، كما لو كنت منشفتها!
أما النشوة الكبرى، فهي عندما تلمس إطارات الطائرة الأسفلت وتمضي في مسارها حتى تتوقف، أعود إنسانا ودودا بشوشا متسامحا، أشكر طاقم الطائرة بحرارة كأنهم أنقذوني حقيقة من براثن وأنياب الوحوش.
بسبب تلك الهواجس، حرمت نفسي من رحلات كثيرة خارج البلاد، بحجج شتى، مثل ضيق الوقت والأشغال، أو الوضع المادي الصعب، وكان عزائي بهذا طه حسين ونجيب محفوظ ومحمد عبد الوهاب، الذين كانوا يرتعدون من ركوب الطائرة، وبعدهم الفنان صلاح السعدني (وكلوديا شيفر بعد أحداث البرجين في نيويورك)، إلى أن تحرّرتُ من هواجسي فجأة بفكرة بسيطة، أقنعت دماغي، أن الله إذا أراد أن يميتني، فالأمر لا يحتاج لكارثة طيران تحصد مئات من البشر وخسائر بمئات ملايين الدولارات لأجل حضرتي، خصوصا وأن بينهم أطفالا لم يعيشوا حياتهم بعد، يكفي أن يسدّ لي شعيرة في الدماغ نفسه أو شريانا في القلب وينتهي الأمر! بهذه القناعة صرت أركب الطائرة هادئا مطمئنا! أستخفّ بشرح المضيفة عن كيفية التصرف في حالات الطوارئ! والتفت إلى من حولي لأحكي لهم مُلحة أو نكتة باسترخاء تام، ولم أعد أكتفي بالطمأنينة والسكينة التي نزلت على قلبي وروحي مهما حدث من مطبات واهتزازات، صرت أترك مقعدي وأقف وأمشي في الطائرة جيئة وذهابا مثيرا فضول المسافرين، أنظر من النوافذ إلى الأرض البعيدة، أدندن بأغنية، ولا ألتزم بإطفاء الهاتف، وأصوّر الغيوم والأرض وقمم الجبال المثلجة، وأتناول الضيافة مثل الآخرين، وأشعر بارتخاء تام عندما تميل الطائرة أو تدخل مطبّا، أبتسم لهذا وذاك غير مكترث، وكأنني أقول لجميع من حولي «لست خائفا» حتى لو سقطت الطائرة بالفعل!
إلا أن هذه الطمأنينة تبخّرت في السفرة الأخيرة. ما أن رأيت البحر تحت الطائرة، حتى عاد دماغي إلى عادته القديمة، مثل المرض الخبيث الذي يحسبه المريض قد اختفى، وفجأة تعود أعراضه أقوى من ذي قبل، راح يرسل لي كوابيس الرعب بشراسة ووحشية أكثر مما مضى، قلت له: لن تسقط طائرة فيها هذا العدد الكبير من الأطفال! فراح دماغي اللئيم يهزأ مني ويمدّني بصور لا تحصى لأشلاء أطفال تحت أنقاض بيوتهم، ولأطفال محترقين، ومتجمدين بردا في الوعور، ولجثث تتقاذفها الأمواج، وأخرى مهشمة على صخور الشواطئ، هذه الشواطئ نفسها التي نحلق فوقها الآن..رحماك يا الله، رحماك يا رب…إني مرتعب…بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق….
أسماك القرش بانتظار سقوط الطائرة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 04.02.2016