لقد كانت مستوطنة "نتساريم" بمكانتها الاستيطانية الأمنية والإستراتيجية في خارطة التوسع والسيطرة الصهيونية, بنفس مكانة مستوطنة "تل أبيب", ولقد عبر عن ذلك الهالك شارون، ولا غرابة في ذلك, حيث يعدّ ملك الاستيطان الصهيوني ومن أكبر داعميه, وكان من الصعب بل والمستحيل حسب عقلية شارون أن يتم تفكيك وإخلاء أي مستوطنة في فلسطين؛ لأن تلك المستوطنات لديها دورها العسكري والأمني, في إطار خطط الحماية لكيان العدو الصهيوني, هذه إستراتيجية العدو من أجل ضمان استمرار احتلاله لفلسطين, ويعتمد الاحتلال على حالة الركون أو الاستسلام وانعدام المقاومة لتمرير مخططاته, وهذا ما يسعى إليه الاحتلال من خلال قمع وإجهاض أي حراك شعبي فلسطيني مقاوم للاحتلال, والعمل على توفير الأجواء المناسبة للتحرك الآمن في الخطط الاستيطانية, لذا نرى التوسع الاستيطاني تزداد وتيرته في فترات الهدوء وأكذوبة مسار التسوية والمفاوضات التي سيطرت على المشهد في فلسطين لعقدين من الزمن, كما أن التخلي عن خيار المقاومة والانتفاضة, يوفر الظروف الآمنة لتوسع الاستيطاني السرطاني في الأرض الفلسطينية, وكذلك الانقسام وتراجع الوحدة الفلسطينية, أضف إلى ذلك غياب الرؤية السياسية الوطنية الجامعة, من أجل مواجهة الاحتلال وإدارة المعركة معه لإحباط مخططاته التي تستهدف قضيتنا أرضاً وشعباً مقدسات.
وتبقى المقاومة الخيار الإستراتيجي الذي نحقق من خلاله جملة من الأهداف الإستراتيجية التي تسهِم في تقوية وتعزيز معركتنا الوطنية ضد الاحتلال الغاشم, ليس بخافٍ على أحد, أن المقاومة تصنع وحدتنا الفلسطينية وتعزز تلاحمنا الوطني, حيث تُجمع جماهير شعبنا على خيار المقاومة من أجل استرداد الحقوق الفلسطينية, ومما لا شك فيه بأن العلاقة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب الفلسطيني تكون في أعلى درجات التماسك في حالة المواجهة الشاملة مع الاحتلال الصهيوني, كما بالمقاومة نحقق النصر على العدو ونفشل مخططاته, وخير شاهدٍ حي انتصار المقدسيين وتحطيمهم للبوابات الإلكترونية عبر الصمود والرباط والمواجهة, وبهذا تمكن المرابطين من أهل القدس المحتلة, من إفشال استهداف المسجد الأقصى عبر مخططات التهويد الخبيثة.
قبل اثني عشرَ عامًا وبتاريخ 12-9-2005 ميلادية, اندحر الاحتلال الصهيوني عن قطاع غزة, وقام ملك الاستيطان الصهيوني شارون بتفكيك المستوطنات التي كانت تقوم على ما مساحته 40% من مساحة قطاع غزة, وسط حالة صدمة وذهول من الجمهور الصهيوني, لم يأخذ شارون هذا القرار وهي يعيش رفاهية الاستيطان واستقراره الأمني في قطاع غزة, بل كان قراره تحت وطأة ضربات المقاومة التي برعت في فنون المقاومة من اقتحام للمستوطنات والمواقع العسكرية, واستهداف المقاومة للمستوطنات داخل قطاع غزة بالقصف المستمر, الذي أفقدها الأمن والاستقرار, مع تمكن المقاومة من قطع الطرق التي كانت آمنة لتنقل المستوطنين بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة عام 48 م, ولقد زاد الفعل المقاوم المركز الذي استهدف الاحتلال ومستوطنيه في قطاع غزة من التكاليف المالية الباهظة, والتي أثقلت الموازنة الصهيونية العامة, وألقت بظلالها على الحياة الاقتصادية في داخل الكيان الصهيوني.
بعد اثني عشر عامًا, من الهروب الصهيوني عن غزة, وتسجيل أول انسحاب للاحتلال بالقوة من أرضٍ فلسطينية, هل استفدنا من هذا النصر الإستراتيجي الذي حققه شعبنا ومقاومته على العدو الصهيوني؟ للأسف الشديد لم يتم استثمار هذا الإنجاز النوعي في إطار المشروع الوطني التحرري, ولم نراكم عليه وطنياً لاستكمال مسيرة مقاومة شعبنا الفلسطيني, ونقل التجربة إلى حيث الاستيطان القاتل في الضفة الفلسطينية المحتلة, فالمقاومة والمواجهة عبر الانتفاضة الشاملة تجعل من الاستيطان أكثر تكلفة مادياً وبشرياً, وقد لا يقوى كيان الاحتلال على دفع هذه التكلفة بشكل متواصل, فيعمد للانكفاء عن كثير من الأراضي والمستوطنات في سبيل تعزيز غيرها كما يعتقد, وهكذا تنجز المقاومة مشروعها التحرري عبر التحرير التدريجي وانتزاع الأرض بقوة المقاومة والحق الفلسطيني.
بعد اثني عشر عامًا من الهزيمة للمشروع الاستيطاني الصهيوني في قطاع غزة, تحولت غزة رغم حصارها الظالم إلى قلعة حصينة منيعة, تطورت عسكرياً لتطال صواريخها أبعد نقطة في فلسطين وتتوسع قوتها الدفاعية والهجومية الرادعة, وكأن مقاومتها تقول بأن الهروب الصهيوني عن غزة لم يمنعها من استكمال مسيرة المقاومة, أو المشاركة الفاعلة في معركة التحرير, ولعل من أثر قوة الردع والبأس للمقاومة الفلسطينية في غزة, نية الاحتلال إقامة جدار على حدود قطاع غزة, وهو بكل تأكيد لن يكون عائقًا أمام أي تحرك للمقاومة فلديها وسائلها وأساليبها في ذلك, كما من آثار بأس المقاومة تفكير الاحتلال وتخطيطه إخلاء مستوطنات غلاف غزة في أي مواجهة قادمة, وهي الآن تشهد تراجعًا في عدد المستوطنين المقيمين فيها, ولم تعد تلك المستوطنات تشهد حالة الاستثمار فيها كما كانت سابقا, حيث أقدم كثير من المستوطنين على الرحيل عن مستوطنات غلاف غزة, بحثاً عن الحياة الآمنة والمستقرة بعيداً عن حدود قطاع غزة, وهذه رسائل تفيد بأن المقاومة وحدها هي من تجبر الاحتلال على التراجع والانكفاء وتقديم التنازلات صاغرا, وفي المشهد المقابل يتم قمع انتفاضة القدس وإحباط أي حراك مقاوم في الضفة ويغيب تبني المقاومة كأحد خيارات التعامل مع الاحتلال, في ظل استمرار الاستيطان الصهيوني الذي ينهش في جسد الضفة الفلسطينية, ويتنقل المستوطنين الغلاة مدججين بالسلاح بكل أمن وسلام, ويتم إعادتهم إلى مستوطناتهم إذا ضلوا طريقهم, وكأننا نقول لهم استمروا بالاستيطان سنشكيكم لأمريكا, أو نرفع احتجاجاً إلى الأمم المتحدة ونحشد لإدانتكم, ولن نحرك ساكناً لمقاومتكم, استمروا بالاستيطان في آمن وأمان.
في حضرة هذه الذكرى نؤكد أن المقاومة, وحدها هي القادرة على دحر الاحتلال والاستيطان وأن إسقاطها من الحسابات أو النكوص عن دعمها أو مطاردة وقمع أبنائها, له مفعول سحري في تضخم الاستيطان وتغول المستوطنين.
إندحار الإحتلال عن غزة هل يتكرر في غلاف غزة والضفة ؟ !
بقلم : جبريل عوده * ... 12.09.2017