لم تتم تفجيرات غزة ضد أفراد شرطة فلسطينيين في فراغ سياسي وأمني، وإنما تمت بناء على رؤية واضحة لمعادلات المنطقة العسكرية والأمنية، والدور الذي يمكن أن تلعبه غزة في مواجهة الكيان الصهيوني. وقد تمت التفجيرات بعد ما تناقلت وسائل الإعلام تصريحا صدر عن أحد قادة حماس بأن المقاومة الفلسطينية ستفتح النار إذا نشبت حرب بين الصهاينة وحزب الله. ونحن على علم ويقين بكل المحاولات الهادفة إلى زعزعة الاستقرار في غزة، وإلى إفقار غزة علّ وعسى أن يدفع ذلك الجمهور الفلسطيني إلى الخروج على المقاومة والقضاء عليها. حصلت عدة محاولات لتفجير الوضع الأمني في غزة، وهناك من هم معنيون بتصنيف المقاومة الفلسطينية ضمن قوائم الإرهاب، وهناك حصار غربي صهيوني عربي فلسطيني على القطاع وتضييق إرهابي اقتصادي شديد على السكان إلى درجة أننا لا نستطيع تحويل دولار واحد من مصارف الضفة الغربية إلى قطاع غزة.
والأمر لا يختلف بالنسبة للمقاومة اللبنانية والتي تعاني منذ سنوات من التضييق والحصار من قبل عرب وصهاينة وغربيين إلى درجة أنهم قطعوا بث وسائل إعلام المقاومة ويكرسون جهودا إعلامية هائلة لتشويه صورتها. ووصل تأثير وسائل الإعلام السلبي إلى الساحة الفلسطينية وتمكن أصحابه من تشويه صورة المقاومة وركزوا على أنها شيعية ضد أهل السنة وليس ضد إسرائيل. كل هذا اللغط وهذا الهجوم على المقاومة اللبنانية لا يقنع أناسا فلسطينيين كثرا بأن المقاومة اللبنانية مع فلسطين وليس مع أعداء فلسطين.
وواضح من فلسطين ولبنان أن ألد أعداء المقاومتين اللبنانية والفلسطينية هما الداخلين الفلسطيني واللبناني. فلسطينيون هم ألد أعداء المقاومة في غزة، وهم يتآمرون عليها ويحاصرونها أكثر بكثير مما يتآمرون على الكيان الصهيوني إن كانوا فعلا يتآمرون عليه. ولبنانيون هم ألد أعداء المقاومة اللبنانية، وعلى شاكلة الفلسطينيين، لديهم الاستعداد للتعاون مع الكيان الصهيوني من أجل القضاء على المقاومة. وكم من مرة تآمر الداخل اللبناني والداخل الفلسطيني على المقاومة وعملوا على إفشالها. هكذا حصل في الحرب عام 2006 على حزب الله، وفي أعوام 2008/2009، 20012، 20014 على قطاع غزة. ولم ينأى العرب بأنفسهم عن هذه الحروب. لقد حرضت أنظمة مصر والسعودية والأردن الصهاينة على الاستمرار في الحروب حتى القضاء على المقاومتين. لكن الصهاينة كانوا يخذلون أعوانهم وعملاءهم العرب ولا يتمكنون من الاستمرار في الحرب. لقد قضت المقاومة على النظرية الأمنية الصهيونية التقليدية، وبات الصهاينة على يقين بأن حروب النزهات قد انتهت، وأنهم أمام واقع عسكري جديد وأمام مقاومة مختلفة عما عهدته في السابق.
لكن لماذا كل هذا العداء العربي للمقاومة؟ هناك سببان: يتعلق الأول بالثقافة العربية، ويتعلق الثاني بأمور سياسية. بالنسبة للثقافة العربية، من المعروف أن عداء العرب بعضهم لبعض أشد من عدائهم لأعدائهم الحقيقيين لأن المنافسات القبلية الداخلية العربية أهم بكثير من تأجيج الحروب مع من هم ليسوا عربا. العدو الخارجي لا ينافس القبائل على الوجاهة العربية وهو ليس معنيا بها. العدو الخارجي يريد تحقيق مصالحه، وقيم الوجاهة والقيادة والزعامة لا تعنيه. ولهذا لدى العربي الاستعداد لبيع وطنه والاستهتار بثروات الناس من أجل أن يبقى وجيها وزعيما جالسا على كرسي السلطة. أما المنافس الداخلي فيتطلع إلى خلع الكرسي من جذورها واستبدالها بكرسي خاص به. وإذا تتبعنا الحروب العربية الداخلية نجدها أكثر شراسة وقسوة ودموية من الحروب مع الصهاينة أو غيرهم. هذا ما تؤكده الحروب الداخلية التي حصلت في العراق وسوريا وليبيا. إنها حروب قبلية شرسة ولا تعرف حدودا لآداب وأخلاقيات الحروب. وبالنظر إلى الحروب البينية العربية نتأكد من المقولة. السعودية تحارب في اليمن على مدى عدة سنوات، وكم كان من الممكن أن تطول الحرب لو كانت مع إثيوبيا على سبيل المثال. الهزيمة أمام دولة أجنبية مستصاغة ومقبولة، لكنها ليست مقبولة إذا كان المنتصر عربيا. وهذا أيضا نلحظه بهزائم العرب السريعة أمام الصهاينة، لكن مقاومة الأنظمة للناس وللتنظيمات الهادفة إلى تغيير النظام لا حدود لها. والأنظمة العربية تكرس أجهزتها الأمنية ضد المواطنين العرب وليس من أجل المحافظة على أمن الناس. المخابرات العربية هي أكبر تهديد لأمن الإنسان العربي.
أما من الناحية السياسية، هزيمة الصهاينة هزيمة نكراء للذين اعترفوا بالكيان الصهيوني وأقاموا علاقات تطبيعية وديبلوماسية معه وهم مصر ومنظمة التحرير والأردن. هزيمة الصهاينة ستعرض هؤلاء المعترفين بخطر شديد وزوال سيطرتهم تصبح حتمية. ومن ناحية أخرى، هزيمة الصهاينة تشكل ضربة قاسية للتحالف العربي مع إسرائيل والذي يهدف إلى مواجهة إيران. فإذا هزم الصهاينة أو اهتز كيانهم بضربات عسكرية موجعة فإن التحالف العربي ضد إيران سيفقد عاملا مساعدا قويا في مواجهة وهمية تضر العرب ولا تنفعهم. القوة الإيرانية تهدد الهيمنة الأمريكية في المنطقة والتي تشكل ظهيرا قويا لأنظمة الخليج ولكل أنظمة القمع والاستبداد العربية، ولهذا يبقى التحالف مع الصهاينة والأمريكان ضروريا لحماية الأنظمة العربية المتخلفة. وبالتالي فإن المحافظة على الكيان الصهيوني ودعمه في مواجهة أي تهديد قد تفرضه المقاومة يخدم بقاء الأنظمة العربية. وهذا يتطلب الوقوف ضد المقاومة حتى لا يصيب الصهاينة ضعف يقلل من قدراتهم على حماية كراسي قادة العرب ومشاريعهم للسمسرة على الأمة العربية والقضية الفلسطينية!!
هزيمة "إسرائيل" هزيمة لمشاريع عربية!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 31.08.2019