أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
فلسطيني “أزعر” يُمنع من العودة إلى بيروت رغم إقامته اللبنانية الدائمة!!
بقلم : مريم مشتاوي* ... 07.05.2020

وداعـًا “بيروت”… وداعًا يا مدينتي.
قلت لأمي، بعد تخرجي من الجامعة الأمريكية، إني سأسافر فقط إلى لندن، لأبني لي مستقبلاً هناك، وسأعود بعدها إلى وطني. ولكني كذبت عليها. نعم كذبت، ربما لأخفف من لوعة الفراق.
فأنا لم أكن أنوي العودة، بل كنت أفكر بأني سأفعل المستحيل بعد أن أستقر في مدينة الضباب كي أقنعها في الالتحاق بي.
أذكر لحظة صعودي الطائرة، كيف بدأت تقفـز أمامي صور الأشخاص، الذين لا تزهّر أيامي من دونهم، وكيف تمكنت تلك الصور من محاصرتي بشكل كامل. صورة جدتي، التي كانت صخرتي، وصوت الوديان ورائحة الورود، وأمي الحنون، ذات الشعاع الأزرق، وصديقات طفولتي اللواتي كبرت معهن.
كانت تمر صورهن أمامي صورة صورة. تعبر واحدة وتمسك بطرفها واحدة أخرى، هكذا حتى سيّجتني كلها وبت أنا واقفة وهي تدور بسرعة حولي إلى أن أصبت بالدوار.
يومها أغمضت عينيّ قليلًا لأطفئ وجوههن. ولأبدد الحنين وأسيطر على ذلك التوتر، الذي كان ينغل في جسدي، والضيق، الذي كبّل صدري وشد بأغلاله عليه وبدأ يعصره بقوة حتى كاد النفس يطير مني. أذكر جيداً تلك اللحظة التي كنت أستجدي فيها نفساً آخر يبقيني على صلة بالحياة.
اليوم وبعد مرور سنوات من الغربة، ما زالت قائمة تلك الأسباب التي قادتني وقادت الآلاف إلى هجرة طويلة.
النظام السياسي المتآكل نفسه! نظام مبني على المناطقية والطائفية والحزبية والشللية. مبدؤه “الواسطة في تسيير الأعمال”، وتفوح منه رائحة الطائفية والعنصرية، التي تزكم الأنوف.
كم كنت مخطئة حين توهمت أن الحال قد يصلح مع مرور الوقت. ولكني اكتشفت أن كل شيء في العالم قابل للتغيير إلا وجوه ساستنا وذهنياتهم وتسلطهم!
منذ أيام قليلة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وفي عدد من الصحف العربية قصة الشاب طارق أبو طه، شاب فلسطيني مولود في لبنان، يحمل إقامة لبنانية صالحة، مهندس مجتهد سافر إلى دبي ليعمل ويعيل أسرته الصغيرة، حين قرر العودة إلى بيروت للقاء زوجته وطفله الصغير تفاجأ بقرار صدر عن الأمن العام ينص على عدم السماح للأشخاص من التابعية الفلسطينية اللاجئة في لبنان ولـ”الخدم” العودة إلى لبنان.
المصيبة، لم تكن فقط في نص القرار الصادر عن الجهة الأمنية، بل أيضاً معاملة رجال الأمن المهينة لشاب تهمته الوحيدة أنه من أصل فلسطيني!
كتب الشاب طارق أبو طه على صفحته الفيسبوكية يروي قصته كاملة: “طلعت ع دبي فتش ع شغل، متل أي شخص. وعلقت هونيك بسبب كورونا. قدمت طلب إنو أرجع على لبنان (بلدي). وإجا اسمي على الطيارة اليوم الأحد. حجزت وجهزت حالي، ووصلت الى المطار. قطعت الأمن والجوازات، ووصلت الى الطيارة. على الطيارة في شخصين من الأمن العام اللبناني، أخدا مني الباسبور (الوثيقة اللبنانية – الفلسطينية الصادرة من الجمهورية اللبنانية). واحد منن يقول لي: شو هيدا؟! قلتلو أنا فلسطيني لبناني. قال يعني بيك وأمك فلسطينيي؟ قلتلو إي. قال لي وقاف على جنب. وقفت ساعة، وخلال هالساعة كل شوي حدا ياخد الباسبور ويرجعو. موظفة على الطيارة قالت للأمن العام اللبناني: “شو المشكلة معو وثيقة لبنانية يعني من لبنان”. رد العنصر في الأمن العام اللبناني: “هيدي للزعران”. حسيت بإهانة. بعمري ما تعرضت لهيك موقف. كل عمري محبوب ومحترم وما غلطت بحق حدا.
وقال رجل الأمن العام: أنا ما بتحمل مسؤولية يطلع معنا عالطيارة إرهابي يمكن. رجعت المضيفة قالتلو: حرام خلي الشاب يرتاح إلو ساعة واقف. قال روح قعود عالكرسي اللي حد الباب. دقيت لوالدي عم خبرو القصة وشو بدي إعمل يمكن ما يسمحولي سافر. شافني شب الأمن العام وقال بكل استهزاء: ليك كمان بلش يدق تلفونات والله الدني كلها ما بتطلعو عالطيارة. وقالولي وقاف برا. وقفت 30 دقيقة بالغبرة والرطوبة والشمس.
على درج الطيارة قالولي: فل ممنوع تطلع. ما فهمت إنو إذا فلسطينيي يعني أزعر”!
أحدثت هذه القصة ضجة كبيرة على مواقع التواصل الإجتماعي لما فيها من ظلم وقسوة وعنصرية،
مما دفع مديرية الأمن لتوضيح موقفها على صفحتها في “تويتر”. فغردت التالي: “تداولت بعض مواقع التواصل الاجتماعي معلومات عن عدم سماح ضابط من المديرية العامة للأمن العام لشخص فلسطيني لاجئ في لبنان بالعودة على متن الطائرة، التي أعادت اللبنانيين يوم أمس من مطار دبي.
يهم المديرية العامة للأمن العام أن توضح أنها تعمل وفقاً لقرار مجلس الوزراء القاضي بعودة اللبنانيين حصراً في هذه المرحلة، على أن يصار إلى عودة غير اللبنانيين، الذين يحق لهم الدخول إلى لبنان في مراحل لاحقة.
وتؤكد المديرية أنها باشرت التحقيق مع الضابط حول ما ورد من معلومات عن تعاطيه بطريقة غير لائقة مع الشخص صاحب العلاقة، ليصار إلى اتخاذ الإجراءات على ضوء نتيجة التحقيق”.
ونتساءل هنا: هل التحقيق مع الضابط يكفي للتخلص من العنصرية الرائجة في لبنان ضد السوريين والفلسطينيين والعمال الأجانب، أو أننا نحتاج لقوانين صارمة وواضحة ترجم كل من يحاول التطاول على الآخرين ظناً منه أنه يتفوق بعرقه عليهم؟
وسؤال آخر: هل كانت مديرية الأمن ستتحرك إن لم تنتشر قصة المهندس في هذا الشكل الكبير؟
يبدو أن معظمنا لن يعود. وسيبقى البلد غارقاً في سواد عميق، إن لم يتغير ذلك النظام، الذي لا تبدو من أولوياته المحافظة على قوانين تصون قيم الكرامة والأخوة والمحبة وتدفع إلى تقبل الآخر، بغض النظر عن جنسيته وعرقه ولونه!

*كاتبة لبنانيّة..المصدر : القدس العربي
1