عرفت أكثر من واحد حمل اسم غاندي، أولهم زعيم الهند، أكثر ما أعجبني فيه صيامه احتجاجاً على صدامات كانت تحدث بين الهندوس والمسلمين، فلا ينهي صيامه حتى يأتوه متصالحين.
غاندي الثاني الذي عرفته كان مواطناً بسيطاً جداً من قريتنا، فيه شبه بسيط من ملامح غاندي الأول، وكان يعتاش من عنزة يملكها.
غاندي الثالث كان الجنرال رحبعام زئيفي، الذي لقبّوه (غاندي) لشبه بينه في شبابه الأول وغاندي الأصلي، وهو صاحب الدعوة العلنية لطرد العرب ما بين البحر والنهر، ليصبح الهواء أنقى والطبيعة أجمل.
يد الجبهة الشعبية قصفت أحلامه عام 2001، في فندق حياة في القدس، رداً على اغتيال قائد الجبهة الشعبية أبو علي مصطفى في رام الله.
فيما بعد، كُشف النقاب أن غاندي الذئب قتل مدنيين وأسرى من العرب، وهذا لم يكن مفاجئاً، وبأنه كان يغتصب مجنّدات في الجيش كنّ تحت إمرته، وهذا أيضاً ليس مفاجئاً.
أما غاندي الرابع فتعرفت إليه قبل بضعة أشهر.
بدأت القصة عندما رجعت في صباح يوم ما بسيارتي إلى الخلف، شغّلت بوق السيارة، لتنبيه القطط التي عادة ما تكون قريبة.
إلا أنني سمعت نباحاً متألّماً، توقفت وتراجعت فقد شككت بالأمر، هبطت من السيارة، فرأيت كلباً صغير الحجم مقعياً عاجزاً عن الحركة، فقد داست العجلة على إحدى قائمتيه الخلفيتين، وراح يصدر صوتاً كأنه البكاء، وزحف حتى التصق بجدار الطريق.
أين كان هذا مختبئاً؟ ولماذا لم يهرب عندما شغّلت محرك السيارة والبوق؟
الإصابة ليست مميتة، وفكّرت بطريقة أساعده فيها تكفيراً عن خطئي.
لابني صديق بيطري تحدّث معه، وبعد ساعتين وصل، عندما رأى الكلب قال إنه يعرفه، أجرى عملية جراحية للكلب، ولفّ له ساقه بالجبص.
صوّرت الكلب خلال العملية، ونشرت صورته على الفيس بوك.
ظهرت تعقيبات كثيرة، تراوحت بين التحية وتقدير الرحمة والعطف على الحيوان، وبين المزاودة القومية والسُّخرية من مشاعري التي رأى البعض فيها عهراً.
في اليوم التالي رأيت تعقيباً من سيدة باسم كاترينا، جاء كالتالي: «أرسلت لك رسالة على الخاص، الرجاء أن تدخل وتقرأ».
فتحت صفحتها محاولاً أن أعرف شيئاً، فرأيتُ، الاسم: كاترينا مالينكوف، مكان الولادة بطرسبورغ.
تعمل: مترجمة.
في صفحتها منشورات بالعربية والعبرية والروسية.
دخلت صندوق الرسائل فرأيت رسالتها، التي كُتبت بالعربية:
«عزيزي…، أولاً الحمد لله على سلامة غاندي، إنه كلبي، لا أعرف كيف أشكرك لأنك أنقذته، ولكن رغم ما أبديته من مشاعر نبيلة، فقد ارتكبت خطأ فظيعاً، إذ كان عليك أن تتأكد من خلو الطريق من ورائك، كثير من حوادث الدهس تجري في ساحات البيوت نتيجة هذا الإهمال، في الأسبوع الماضي وقعت حادثة مشابهة في قرية في النقب، كان ضحيتها طفلاً، الزّمر لا يكفي لتحذير طفل وإبعاده من وراء السيارة، في كل عام يلقى عدد من الأطفال حتفهم ويصاب ويشوّه كثيرون، خصوصاً من العرب، كان ممكناً أن يكون هذا الكلب، طفلك أنت، أو أحد أطفال الحي، حينئذ تقع مأساة وآلامٌ فظيعة لذوي الطفل ولك، إضافة إلى أنك ستتعرض إلى المساءلة القانونية، وقد تنشأ عداوة بينك وبين ذوي الطفل! ولا أظنك ستنسى أبداً ملامح طفل حرمْته الحياة، لم يخطُ فيها سوى بضع خطوات.
على الفور أرسلت لها ردّاً- السيّدة كاترينا المحترمة: تحياتي، أولاً، الحمد لله أن غاندي كلب وليس طفلاً. ثانياً، أعجبني أن اسمه غاندي، إنها تسمية موفقة تشبه رأسه الصغير ولون فرائه البني. ثالثاً، كلامك سليم ومنطقي، لقد كان هذا درساً قاسياً بالنّسبة لي.
ولكن يبدو لي أنه كلب غبي، أو أنه قصد الانتحار.
ظهرت في المقابل نقاط تعني أنها تكتب رسالة في هذه اللحظات، فانتظرت ظهورها.
-لا.. غاندي ليس غبيّاً، إنه ذكي، لا أعرف ظروف الحادثة، وقد يكون مكتئباً بسبب طرده من البيت. على كل حال، شكراً على أنك اعتنيت به، سآتي غداً أو بعده وآخذه..
– بإمكانك أن تستلميه متى شئت.. ولكن كيف عرفت أنه عندي وأنه كلبك؟
-الدكتور الذي عالجه، هو الذي أخبرني بأن كلبي عندك، وبأنه أجرى له العملية، فهو عالج غاندي أكثر من مرّة، وهو مسؤول عن تطعيمه، ومسجّل عنده.
-ولكن ما دمت تحبينه وتريدينه؟ كيف وصل بلدتنا؟
-نحن بالقرب منكم في (كرمئيل)، العمارة التي نسكن فيها تطل على بلدتكم، زوجي هو الذي حمله وألقاه قرب البيوت عندكم، لم يعد يطيقه.. هل سمعت برجل يغار من كلب؟ زوجي تشوّش عقلياً. على كل حال، عندي مشكلة صغيرة سوف أسوّيها أولاً، ثم سآتي وآخذه، اعتن به رجاءً…
-إن شاء الله، ولكن هل ممكن أن أسأل سؤالاً؟
-تفضل..
-رأيت أنك من مواليد بطرسبورغ، وأفهم بأنك روسية، فمن أين لك هذه العربية الممتازة؟
-آه، أنا عملت في زمن الاتحاد السوفييتي سنواتٍ كمترجمة بين العربية والروسية، وما زلت أعمل في هذا، عندي مكتب ترجمة.
-ألم يكن لك عمل في روسيا؟
-بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي، كان الوضع صعباً ومقلقاً، فكّرنا أنا وبوريس في الهجرة إلى أمريكا، ولكن أمريكا أغلقت الأبواب بوجه مهاجري الاتحاد السوفييتي بطلب من إسرائيل، ابتداء من سنوات التسعينيات، فكان أمامنا إما إسرائيل أو ألمانيا، بوريس عثر على جد يهودي لوالدته، فحصلنا على حقوق ومِنح المهاجرين.
-حسناً، متى ستأتين لاستلام غاندي؟
-خلال يومين سنكون على اتصال.
-أنتظرك…
غاندي الرابع ملتصق بالجدار، ساقه في الجبص، اقتربت منه، قرفصت قبالته وتأمّلته، وسرحت.. ما الذي يجعل إنساناً يترك وطناً مساحته حوالي سبعة عشر مليون كيلومتر مربع، ثم يأتي ليقيم على أرضٍ لا يعرف من هم أصحابها.
نظر غاندي بعينيه الصغيرتين، ثم رمش كأنه أحسّ بخجل من أمر ما..
– لا ياغاندي، أنا لا ألومك أنت، أتحدّث عن هذا الذي غار على زوجته من حضرتك.. يترك مساحة سُبع الكرة الأرضية ويأتى ليحاربنا على مرقد العنزة المتبقي لنا! وقد يكون من الطامعين بهواء أكثر نقاءً وماءٍ أكثر صفاءً فيطالبنا بالرحيل من وطننا كشرط لاكتمال سعادته..
غاندي الرابع…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 18.06.2020