هناك عنصر مخابرات، وهناك فرع مخابرات، وهناك نظام أمني، وهناك دولة أمنية، لكننا لم نسمع بالليرة الأمنية أو المخابراتية إلا في سوريا الأسد. لا عجب إذاً أن ترى أحياناً حاكم البنك المركزي السوري ينتظر في غرفة الانتظار حتى يأتي دوره لمقابلة ضابط أمن يفهم بالاقتصاد كما يفهم الحمار بالانشطار النووي. لا تتعجب أبداً، ففي سوريا ليس هناك شيء لا يقع تحت سيطرة المؤسسة الأمنية، فهي المؤسسة الفاعلة الوحيدة، وهي المؤسسة الوحيدة المسموح لها أن تعمل بدقة ساعة روليكس، بينما بقية المؤسسات كلها معطل ومشلول ولا يستطيع أن يحرك ساكناً إلا بأمر من المؤسسة المخابراتية وخدمة لها. وقد بات السوريون جميعهم يعرفون أن تسليط المخابرات على كل مناحي الحياة في سوريا هي سياسة منظمة ومعتمدة من مشغلي النظام في الخارج وعلى رأسهم إسرائيل طبعاً، وبالتالي فإن الدولة السورية الأمنية المزعومة تنفذ أوامر مشغليها، وتصادر كل القرارات وتتحكم بكل شيء في سوريا من الزبالة حتى الاقتصاد، وتمنع أي تطور في البلاد تنفيذاً لأوامر سادتها ومشغليها الخارجيين الذين سلطوها على الشعب السوري وطلبوا منها أن تمنع أي نهضة أو تطور في البلاد خدمة لمصالح أسيادها. وبما أن حتى الاقتصاد الذي يحتاج إلى عقول عظيمة قد صار من ممتلكات الدولة الأمنية في سوريا الأسد، فلا عجب أن يصبح صعود أو هبوط الليرة بقرار مخابراتي وليس بقرار اقتصادي كما هو معمول به في كل البلدان التي تحترم نفسها وتربط عملتها بالحالة الاقتصادية للبلد وبالاقتصاد.
لا شك أن كثيرين تابعوا تقلبات وتطورات وانهيارات ثم صعود الليرة السورية أو انهيارها ثانية منذ بداية الثورة عام ألفين وأحد عشر. ومن المعروف في أبسط أبجديات تذبذب أسعار العملة أنها كلها تعود إلى حالة الاقتصاد بالدرجة الأولى، فكلما كان الاقتصاد قوياً ومستقراً، استقرت معه العملة وصعدت بصعوده وتراجعت بتراجعه، لكن الليرة المخابراتية السورية تتحدى كل أقانيم المال والاقتصاد، وترتفع وتهبط بقرار مخابراتي بما يخدم حيتان ولصوص العصابة الحاكمة في البلاد وليس بما يخدم الاقتصاد والشعب والدولة. ومعلوم أيضاً أن الاقتصاد السوري لم يكن يوماً مرتبطاً بالاقتصاد الدولي كي يتأثر بتذبذباته، لهذا فهو خارج الإطار الاقتصادي والمالي الدولي عملياً، باستثناء طبعاً بعض المعاملات المالية التي تتم عبر البنك المركزي السوري مع العالم. وقد انزوى الاقتصاد السوري منذ عقود دولياً بفعل العقوبات الغربية، وبفعل السياسة البعثية الانزوائية التعيسة التي عادت العالم وصارت منبوذة ومارقة. ولهذا لا عجب أن يكون أي تطور في أسعار الليرة السورية هبوطاً أو صعوداً قراراً سياسياً وأمنياً سورياً أكثر منه اقتصادياً. وبما أن الليرة خارج المنظومة المالية والاقتصادية الدولية، فإن العصابة الأمنية الحاكمة ما لبثت تستغل هذا الوضع للتلاعب بسعر العملة بما يخدم مصلحتها ومصلحة اللصوص المتحكمين بالاقتصاد السوري وثروات البلاد ولقمة عيش السوريين.
لاحظوا مثلاً ماذا فعلت العصابة الحاكمة بالليرة السورية منذ بدء الثورة قبل حوالي تسع سنوات بعد أن أنفقت معظم مدخرات سوريا على السلاح والجيش والمرتزقة لقتل السوريين وتهجيرهم وتدمير أرزاقهم. وبعد أن أصبح الاقتصاد السوري ومدخرات الخزينة شحيحة جداً، بدأ النظام يفكر بالطريقة المثلى لمواجهة هذا الوضع الاقتصادي العويص. وجدتها وجدتها، تعالوا نتلاعب بسعر الليرة كي نستطيع دفع رواتب السوريين بطريقة شيطانية. فجأة بدأت الليرة السورية تنهار شيئاً فشيئاً بما يخدم أجندة النظام لإفقار السوريين والتلاعب بلقمة عيشهم. كيف حصل ذلك ولماذا؟ من المعروف أن متوسط الدخل في سوريا قبل الثورة كان ما يعادل ثلاثمائة دولار، يعني حوالي خمسة عشر ألف ليرة حسب السعر الرسمي في ذلك الوقت.
في سوريا ليس هناك شيء لا يقع تحت سيطرة المؤسسة الأمنية، فهي المؤسسة الفاعلة الوحيدة، وهي المؤسسة الوحيدة المسموح لها أن تعمل بدقة ساعة روليكس، بينما بقية المؤسسات كلها معطل ومشلول
لكن كلما انخفض سعر الليرة أمام الدولار أصبح ذلك في مصلحة النظام، لأن الراتب سينخفض في هذه الحالة، وبدل أن يعطي الأسد للموظف ما يعادل ثلاثمائة دولار، فيعطيه الآن راتباً أقل حسب الانخفاض الحاصل في سعر الليرة. بعبارة أخرى، بدل أن يخصص مائة مليون دولار شهريا للرواتب، يخصص سبعين مليون، لأن الليرة فقدت ثلاثين بالمائة من قيمتها. وهذا يعني أن الشعب يزداد فقراً ونظام النهب يزداد ثراء على حساب لقمة عيش الشعب. لاحظوا الآن أن راتب السوري انخفض إلى خمسة عشر دولاراً شهرياً بعد أن كان حوالي ثلاثمائة دولار، لأن الليرة انهارت، بينما مازال الراتب على حاله، وكل الزيادات الأخيرة لم تضف للراتب سوى فتات بسيط حسب سعر الدولار.
والغريب العجيب في الأمر أن مستوى المعيشة في سوريا الأسد محسوب بالدولار وليس بالليرة، مع العلم أن سوريا عملياً خارج نظام الدولار العالمي، مع ذلك فإن حتى المزارعين يبيعونك الفاكهة والخضار المنتجة محلياً حسب تذبذبات الدولار، لا عجب إذاً أن أصبح البقدونس في سوريا الأسد يباع بالدولار وليس بالليرة، ولهذا صار رأس البصل أو حبة الليمون في الآونة الأخيرة حلماً للكثير من السوريين بعد أن تضاعف سعرهما عشرات المرات بسبب انهيار الليرة أمام الدولار.
لا شك أن البعض سيقول إن التدهور الحاصل في سعر الليرة ناتج عن الحرب وانهيار المصانع والزراعة والاقتصاد الداعم للعملة. وهذا سؤال وجيه وصحيح من الناحية النظرية، لكنه لا ينطبق على النظام السوري مطلقاً، لأن النظام يتعامل مع الليرة والاقتصاد بطريقة مخابراتية سياسية نفعية وليس بطريقة اقتصادية. بعبارة أخرى، فإن النظام يلعب بسعر الليرة حسبما يريد لأغراضه الخاصة، بدليل أن الكثيرين كانوا يتوقعون أن ينهار سعر الليرة بشكل جنوني بعد تطبيق قانون قيصر، لكن الغريب العجيب أن سعر الليرة تحسن أمام الدولار مع أن الوضع الاقتصادي في سوريا تدهور بشكل رهيب حتى قبل تطبيق القانون الأمريكي. وهذا يعني باختصار أن من يحدد سعر الليرة ويتلاعب بها صعوداً وهبوطاً هو النظام الأمني وليس الاقتصاد. وللتذكير فقط، فإن رامي مخلوف مثلاً كان مطلوباً منه في الماضي أن يدفع للخزينة السورية مليارات الليرات، لكنه مع انهيار الليرة المتعمد والمضبوط مخابراتياً يجعله الآن يدفع خمسة بالمائة مما هو مطلوب منه، لأنه باختصار يستطيع الآن أن يصرف الدولار بسعر ثلاثة الاف ليرة للدولار الواحد، بينما في الماضي كان سعره خمسين ليرة أو أكثر قليلاً حسب الانهيار. وهذا يعني أنه إذا كان سعر المليون دولار في الماضي مئتي مليون ليرة سورية، فإنه الآن ثلاثون ضعفاً أو أكثر، وقس على ذلك.
لكن أخيراً، مهما حاول النظام التلاعب بالليرة خدمة لعصابة اللصوص، لكنها ستنهار قريباً شاء أم أبى، لأنها بالأصل بلا رصيد، وبلا اقتصاد قوي يدعمها، وهي أعلى من سعرها الحقيقي أصلاً أمام الدولار على أرض الواقع، ناهيك عن أن الخزينة خاوية على عروشها ولا تمتلك من العملات الصعبة إلا القليل، ولا يمكن لبشار الأسد وعائلته أن يسحب مئات مليارات الدولارات من حساباته الخاصة في الخارج ويعيدها إلى البنك المركزي لدعم الليرة. فهذا مستحيل. وفي لحظة ما ستسمعون أن الليرة السورية صارت مثل البوليفار الفنزويلي أو التومان الإيراني أو الليرة اللبنانية، أو ما يعرف اختصاراً بعملات حلف المماتعة والمقاولة التي انهارت وصارت برخص التراب.
ليرة المخابرات السورية تتحدى العالم !!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 27.06.2020