الانتفاضة الأمريكية تحلّق بعيدا، أعمق وأبعد بكثير مما ظهر على سطح بدايتها.
فمِن احتجاج على عنف الشرطة ضد رجل أسود، إلى رفضٍ لكل مظاهر العنصرية ضد الملونين، ثم ضد الفقر والتوزيع المجحف للثروات، ثم إلى تاريخ الاحتلال، وجرائم الإبادة الجماعية العرقية التي ارتكبت ضد السكان الأصليين من قبائل الهنود الحمر.
في يوم السبت الأخير، أسقط متظاهرون تمثالا لكريستوفر كولومبوس في الماء، في مدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وسبق أن أحرقوا تمثاله في مدينة ريتشموند عاصمة فرجينيا. إسقاط تمثال كولومبوس يختلف في معناه عن بقية التماثيل، لأنه يعني الرفض الجذري للاحتلال وممارساته من أصلها، يعني رفض التطهير العرقي للقبائل التي سبقت الاستعمار الأوروبي لتلك البلاد، التي أطلقوا عليها اسم أمريكا.
الرئيس الأمريكي المذهول دونالد ترامب ندّدَ، ووصف المتظاهرين بأنهم راديكاليون وشيوعيون وفوضويون ومشاغبون. يبدو أن الرئيس ترامب، نسي أن أكثر التماثيل التي أسقطت في العقود الثلاثة الأخيرة، هي تماثيل لقيادات شيوعية، طالت كل الدول التي عُرفت بالمعسكر الاشتراكي، قبل أن تصل الأمريكيين حمّى هدم التماثيل، فالقضية التي ينتفض الأمريكيون لأجلها ليست أيديولوجيا حزبية وتنظيمية ضيقة، بل أعمق من هذا بكثير. كذلك فقد سبق التماثيل الأمريكية إسقاط عدد لا بأس به من تماثيل كانت «تزيّن» ملاعب الكرة بكل فروعها، والمؤسسات وميادين المدن والقرى والمزارع العربية، إما أنها أُسقطت بسواعد الجماهير الغاضبة، أو أنها أزيلت بمبادرة البلديات، وأعيد صهرها لتدويرها، والاستفادة من نحاسها وحديدها. لم يشفع مرور خمسة قرون من الزمن لكولومبوس، ولا بأنه لم يكن سوى مغامر، ولم يشفع له ما حققته أمريكا في كل مجالات التطور الصناعي والزراعي والعسكري، وغزو الفضاء وأعماق البحار، ولا الدورة الاقتصادية الهائلة، فيبدو أن الإنسان يحتاج لأكثر من السيارة وجهاز الهاتف المتقدم، ومن قماشة الجينز وكوب البيرة، وشريحة لحم البقر وكل الكماليات، فمهما تطوّر، يبقى في حاجة إلى ما لا تدركه الحواس الخمس، وهو كرامته، والنور الداخلي العميق الذي لا يعوّضه مالٌ ولا بنيانٌ ولا أملاكٌ خاصة.
هدم التماثيل، يقول بأن الجرائم لن تندثر ولن تُنسى مهما طال الزمن
في هدم تماثيل قادة أمريكا الأوائل، عبرة قويّة لأولئك الذين يسرعون في تلقّف المقص عن الوسادة المخملية لقص أشرطة تدشين بناء تماثيل لأنفسهم، وافتتاح مؤسسات تحمل أسماءهم، يظنون بأنها قادرة على محو ما اقترفوه في حق الناس، من قمع وقتل وسجن وإفقار وإذلال. هدم التماثيل، يقول بأن الجرائم لن تندثر ولن تُنسى مهما طال الزمن، بل أنه كلما كان التمثال أضخم وأكبر وزنا، كان دوي سقوطه أشدّ، وأبعد صدى. التماثيل تحوّلت إلى مصدر للغضب، خصوصًا في البلدان التي تعاني من فقر مدقع، مع العلم بأن الفنان الذي يصمم التمثال يعرف بأنه ينافق باسم الجميع. وإذا كانت تماثيل بعض قادة أمريكا ومؤسسيها قد صمدت مئات السنين، فإن معظم تماثيل زعماء المنطقة العربية، لم ولن تصمد لأكثر من أربعة أو خمسة عقود في الحد الأعلى، وهذا يشمل أسماءهم التي يطلقونها ظلما وبلطجة على المؤسسات التي تقام من أموال الشعب وقوته، والتي محيت أو سوف تمحى مثل أخطاء مطبعية، أما من كان محتفظا لنفسه بتمثال صغير للقائد «التاريخي»، فإنه بحث خلسة عن مكان آمن وحفر فيه حفرة ودفنه فيها.
الانتفاضة الأمريكية المباركة ما زالت تتفاعل، وسوف تصل إلى سياسة إدارات أمريكا الخارجية، التي دمّرت شعوبًا وأوطانًا، باسم نشر القيم الأمريكية. سوف يأتي يوم وتعتذر أمريكا لشعوب حاصرتها وأفقرتها، ولشعوب دعمت جلاديها، أو دمرتها مباشرة بآلتها العسكرية الهائلة ونهبت خيراتها. إسقاط تماثيل تجار العبيد كان مفهومًا وواضحا، كذلك إسقاط تماثيل رؤساء سمحوا ببقاء القوانين العنصرية، ولكن من الذي يجب أن يعتبر من إسقاط تمثال كولومبوس؟ إنهم أولئك الذين لا ترمش أعينهم وهم يقتلعون السكان الأصليين ليحلوا في مكانهم، لأولئك المنتشين بخمرة القوة، وبضعف الآخرين وقلة حيلتهم، إنها عبرة لأصحاب نظريات الطرد والاقتلاع والمحو والضّم، وفرض سياسة الأمر الواقع، فالحساب سيأتي ولو بعد قرون. إسقاط كولومبوس يعني أن الاعتذار الأمريكي للشعب الفلسطيني آتٍ وإن تأخّر، وذلك على دعم هذه الدولة العظمى لاحتلال كولونيالي، مارس في فلسطين ما لا يقل إجراما عن ما مارسه المستوطن الأمريكي الأبيض، تجاه أبناء الوطن الأصليين في تلك القارّة.
إسقاط كولومبوس… اعتذار لفلسطين !!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.07.2020