يؤكد علماء السياسة والاجتماع أن أهم عنصر للتقدم الإنساني عامة وتحقيق الديمقراطية خاصة يكمن في الحراك الاجتماعي، أي أن الديمقراطية لا يمكن أن تولد إلا من رحم الصراعات والاشتباكات حتى لو كانت عنيفة ودموية في أغلب الأحيان، فالوضع المزدهر الذي آلت إليه أوروبا وأمريكا مثلا لم يأت فجأة، بل كان نتيجة لقرون من التطاحن والمعارك والدماء. وكلنا يعرف كم خسر الأوروبيون من الأرواح حتى وصلوا إلى حالة الرخاء والتقدم والاستقرار ومن ثم الديمقراطية التي ينعمون بها الآن. فقد قتلوا من بعضهم البعض الملايين في حروب مدمرة أتت على الأخضر واليابس ناهيك عن التقاتل داخل الدول نفسها، فالمجتمعات الغربية لم تتناحر مع بعضها البعض فقط بل شهدت أيضا حروبا وصراعات داخلية أشد وأعتى، فأمريكا مرت بحرب أهلية دونها التاريخ. أما بريطانيا، كما يجادل المفكر الفلسطيني بشير موسى نافع، « فلم تكن الديمقراطية فيها ممكنة لولا انتهاء الصراعات الدموية منذ القرن السادس عشر… لقد ولد الإجماع البريطاني في نهاية مائتي سنة من الحروب الأهلية الطاحنة، وولد هذا الإجماع في ألمانيا من أتون هزائم مدمرة» واضطرابات وتحولات كبيرة. ولا ننسى ثورات فرنسا وإسبانيا وغيرهما. أما إيطاليا فلم تصل إلى بر الأمان الداخلي إلا في وقت متأخر، فقد عاشت كغيرها من الدول الأوروبية فترات عصيبة من الصراعات والمشاحنات الداخلية قبل أن تستقر فيها الأمور وتصل إلى مبتغاها.
بعبارة أخرى فإن حالة الاستقرار والرفاهية والديمقراطية كانت نتيجة نضال عسير ليس فقط ضد الآخرين بل أيضا بين أبناء البلاد أنفسهم، فكانت الجماعات والأحزاب والفصائل تشتبك وتتناحر وتقاتل بعضها البعض حتى وصلت إلى الإجماع الوطني المطلوب، فمن أهم مقومات بناء الديمقراطية كما يرى بعض المفكرين، هو الإجماع الداخلي والتوصل إلى وضع مشترك يحسم الأمور ويتفق عليه الجميع، فمن دون ذلك تظل البلاد في حالة مخاض. وكلنا يعرف أن المرأة لا تلد مولودها إلا بعد أن تنتهي من مرحلة المخاض المعروفة بالطلق.
وكي يحدث الحراك الاجتماعي والسياسي لا بد من توفر المجال وحرية الحركة حتى لو أدت هذه الحركة إلى صراعات دامية داخل الأوطان، فحجر الصوان لا يحدث شرارة إلا إذا احتك بقوة بحجر صوان آخر. صحيح أن العرب ناضلوا طويلا وضحوا بملايين الشهداء من أجل التحرر من نير الاستعمار الأجنبي. ولا أحد يستطيع أن ينكر بطولات وتضحيات معظم الشعوب العربية، فالجزائريون خسروا أكثر من مليون شهيد لطرد الفرنسيين من ديارهم. الجميع ناضل وقدم الدماء كي يتحرر من ربقة الغاصبين. لكن كان على الذين حققوا الاستقلال في البلدان العربية أن يعرفوا أن التحرر من المستعمر الخارجي ليس نهاية المطاف، فهو مجرد استقلال أولي، لهذا دعا المفكر التونسي منصف المرزوقي مثلا في كتابه الرائع بنفس العنوان إلى تحقيق «الاستقلال الثاني» ويعني بذلك الاستقلال الوطني، أي تحرير الوطن من أعدائه الداخليين الذين ما لبثوا يخنقون حريته ويغتصبون حقوقه وتقدمه ويدوسون كرامته.
إن حالة الاستقرار المزيف التي فرضتها الأنظمة العربية منذ عشرات السنين على أوطانها كانت في واقع الأمر حقا يُراد به باطل، فقد صدعت هذه الأنظمة رؤوسنا وهي تتشدق بالحديث عن نعمة الاستقرار والأمن وضرورته لبناء الأوطان والنهوض بها، لكننا اكتشفنا بعد طول انتظار أن الهدف من فرض حالة من السكون على البلدان العربية لم يكن من أجل البناء والتقدم كما كانوا يدعون، بل من أجل أن تستتب الأمور للأنظمة الحاكمة و يحلو لها الجو كي تسلب وتنهب وتعبث بمقدرات الشعوب والأوطان وتبقى مسيطرة على زمام الحكم دون إزعاج من أحد، فبحجة الحفاظ على الاستقرار وصون ما يُسمى بالوحدة الوطنية مارست هذه الأنظمة أبشع أنواع الكبت والقمع بحق البلاد والعباد. وماذا كانت النتيجة؟ طبعا تقهقر وتراجع على مختلف الأصعدة. وقد سمعت معلقاً عربياً يقول ذات مرة إن بعض الأنظمة العربية وضعت شعوبها وأوطانها في الثلاجة منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى السلطة. وقد جاء كلامه هذا تعبيراً عن حالة التجمد التي وصلت إليها الدول العربية في مختلف المجالات. فلا اقتصاد يزدهر، ولا تجارة تتحرك، ولا حراك سياسي أو اجتماعي، ولا ومن يحزنون، فكل من يحاول أن يرفع رأسه يٌقمع بوحشية عز نظيرها تحت حجج الأمن والاستقرار.
يحاجج بعض المتفلسفين والمنظرين لأنظمة القمع والاستبداد أن بناء دولة القانون والمؤسسات لا يمكن أن يتم إلا بعد المرور بما يسمونه بمرحلة القمع، وكأن الشعوب عبارة عن قطيع من الحمير والبغال أو حيوانات متوحشة كما وصفها المفكر السياسي هوبز تحتاج للتأديب والتطبيع كي تصبح أليفة لا تتجرأ على المعاكسة والمشاكسة أو الخروج على النص. ويستشهد هؤلاء المتفلسفون بفوائد الأمن والاستقرار وآثاره الإيجابية على البلدان الغربية. ويستشهدون بالمثل القائل إن الحجر المتدحرج لا ينبت عليه العشب. وأن لا تقدم وازدهار من دون استقرار داخلي، وهذا صحيح جزئياً، لكنهم يتعامون قصداً عن الحقيقة القائلة أن الاستقرار الذي وصلت إليه أوروبا والبلدان المتقدمة لم يكن مفروضاً، بل جاء نتيجة طبيعية لحالات طويلة وعصيبة من النضال والصراع. وهو أمر مفقود تماما في تاريخنا السياسي والاجتماعي العربي. والدليل على بطلان نظريتهم أن الاستقرار المزعوم الذي فرضوه على الشعوب والأوطان لم يحقق أي تقدم، بل كما قلت، أدى إلى حالة من الكساد السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الديني في البلاد العربية.
أما الوحدة الوطنية التي كانت تتفاخر الدول العربية بتحقيقها فهي وحدة زائفة ومؤقتة ومرتبطة أولا وأخيراً بزمن فترة القمع والاستبداد. ولن يحدث الاستقرار الحقيقي في مثل تلك البلدان إلا عندما تتعارك وتشتبك الشعوب مع بعضها البعض وتصل بعد طول صراع إلى صيغة وإجماع وطني يحقق لها الوحدة الحقيقية والاستقرار الدائم.
تصارعوا تصحّوا!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 22.08.2020