كنت في زيارة لأحد أقربائي في حيفا، في أحد الأحياء القريبة من البحر، كانت الليلة الأخيرة من شهر الصيام، خرج من الشقّة لإحضار شيء ما من البقالة، وعندما عاد قال لي إن الطرق مغلقة، كان حيّ الألمانية في تلك الأثناء مشتعلاً بين المتظاهرين العرب ومجموعات من الفاشيين المدعومين من قبل الشّرطة.
كنت مخطئاً في تقديري بأنها مواجهة تقليدية كما أعرفها، حيث يقفُ المتظاهرون عادة على الرَّصيف، وبعد وقت من الهتافات، ينزل بعضهم إلى الشارع، يتبعهم آخرون ويغلقونه أمام حركة السير، حينئذ تبدأ الشرطة في محاولتها لتفريقهم بالقنابل الصّوتية، ثم بالغاز المسيِّل للدموع، وخراطيم مياه ذات رائحة كريهة وألوان، كي تستطيع اعتقال المشاركين فيما بعد، وأخيراً الهجوم على المتظاهرين بالخيول الضخمة المدرَّبة والمعدّة إلى مثل هذا العمل القمعي.
هذه المرة كانت مختلفة، فالمواجهة ليست مع الشرطة، بل مع عصابات فاشية منظّمة، يستدعون بعضهم بعضاً من خلال مجموعات التواصل، فيصلون إلى المكان المحدّد بأعداد كبيرة مسلحين بالسواطير والجنازير والعصي والمسدّسات، وتتعامل الشرطة معهم برفق كرفاق وشركاء في المهمة، وليس كمثيري شغب ومجرمين.
هؤلاء الفاشيون معروفون بتسميات مختلفة منها «فِتية التِّلال»، و»اللّهبة» و»نواة التوراة» وغيرها، هم الذين يؤسّسون للبؤر الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية، وهم الذين يحرقون المحاصيل الزراعية ويقطعون أشجار الزيتون ويهاجمون الفلاحين الفلسطينيين ويقتلون مواشيهم، وهم الذين يحاولون احتلال حي الشيخ جراح وتشريد سكانه، وهم الذين يقتحمون باحات المسجد الأقصى، وهم الذين يبادرون إلى إقامة بؤر استيطانية استفزازية في المدن المختلطة بهدف تهجيج العرب منها، وهم عصابات «تدفيع الثمن»، الذين يخرّبون ممتلكات العرب كعقوبة لهم، مقابل كل موقف سياسي لا يعجبهم من قبل حكومة إسرائيل، وهؤلاء هم الذين يهدّدون الصحفيين اليهود بالقتل إذا ما لاحظوا رائحة من الموضوعية في خطاب أحدهم، وهم الذين يضربون الصحفيين ويكسرون أجهزة عملهم، وهم الذين يهددون عربياً ويهودية متزوّجين أو متحابّين بذريعة عدم شرعية التمازج.
في الليلة نفسها، تعرّض أحد أبناء يافا العرب إلى هجوم هؤلاء الغوغاء خلال عودته من عمله في «بات يام» جنوب تل أبيب، سحبوه من سيارته التي حوصرت، وضربه العشرات منهم حتى ظنّوه ميتاً.
أثناء عودتي من حيفا، تلقيت مكالمة هاتفية من البيت، تحذرني من دخول عكا، لأن الوضع مشتعلٌ بين العرب واليهود، اتصل ابني لأنه يعرف عندما أتوجَّه في سيارتي إلى الغرب، فهذا يعني عكا وليس حيفا أو غيرها.
لم يكن اليهود يدفنون موتاهم في عكا حتى عام 1929، وذلك لأن أجدادهم من يهود فلسطين كانوا يؤمنون بأن عكا ليست ضمن أرض الميعاد الموعودة، ولهذا كانوا يدفنون موتاهم في قطعة أرض في قرية كفر ياسيف عند أقدام الجليل الغربي، أصبحت اليوم في وسط القرية.
على مدخل عكا الشرقي الخارجي نصبوا حاجزاً للشرطة لمنع الدخول إليها، فواصلت طريقي من الشارع الالتفافي باتجاه بلدتي مجد الكروم.
عندما وصلت البلدة كانت بضع سيارات من الشرطة الخاصة على المدخل الغربي الذي يبعد عن بيتي حوالي المئة متر فقط، كان الهواء مشبعاً برائحة الغاز المسيّل للدموع والمهيّج للبشرة، فقد شهدت ساحات البيوت القريبة كلها كرّاً وفرّاً بين الشرطة والشبان، ولاحقوا الشبان والفتيان حتى داخل البيوت لاعتقال بعضهم، بعدما اشتبكوا مع الشرطة غضباً ونصرة لإخوانهم في المدن المختلطة والقدس والضّفة الغربية والقطاع، هذه المواجهات استمرت لبضع ليالٍ.
لا أعرف معظم الشُّبان، حتى وهم سافرو الوجوه، في الليل يتلثّمون بكِمامات الكورونا أو بالجوارب، لتخفيف حدة الغاز المسيل للدموع ولإخفاء وجوههم، بعضهم ممن يمرُّون أمام بيتي، يحييني باسمي وكنيتي، أردُّ التحية دون أن أعرف المحيِّين وأحذِّرهم «انتبهوا، لأنهم مسعورون اليوم».
تعتقل الشرطة من تستطيع الإمساك به في محيط المنطقة، حتى ولو لم يكن مشاركاً في أي نشاط، أحدهم كان في زيارة لأهل زوجته، أخذوه من ساحة البيت، رغم أن ساقه ملفوفة بالجبص.
فاقت حصيلة الاعتقالات من بين الشبان العرب الألف معتقل، بينما وزير الأمن الداخلي طلب من الشرطة إطلاق سراح الفاشي قاتل الشاب موسى حسّونة من اللد، ورغم ذلك يزعم الإعلام العبري بأن اليهود يتعرّضون إلى هجمات متواصلة من قبل الشبان العرب، حتى العربي الذي يتعرض للضرب أو إلى حرق ممتلكاته، يتحوَّل إلى جانٍ، فالإعلام الإسرائيلي ليس سوى بوق للشرطة وحتى للفاشيين، سوى ما ندر منه.
ومن فمك أدينك، فقد أعلن القائد العام للشرطة الإسرائيلية كوبي شابتاي، بأن «عضو الكنيست بن جبير من حزب الصهيونية القومية هو الذي يشعل النيران كلما أطفأناها»، وحمله مسؤولية تفجير الوضع في القدس وفي المدن المختلطة، وبالمقابل طالب هؤلاء بإقالة شابتاي واتهموه بالفشل.
كوبي شابتاي عاد يوم الثلاثاء الأخير وصرّح بأن هناك «إرهابيين» من العرب واليهود، ولكن هذا لم يعجب وزير الأمن الداخلي أمير أوحانا، الذي رفض هذه المقارنة، وردّ عبر حسابه في تويتر: «يجب الاعتراف بأن مثيري الشغب العرب هاجموا اليهود والشرطة والكُنس اليهودية، وسياستنا هي العمل بقوة ضد مثيري الشغب الإرهابيين، ولا يوجد تناظر بين الجانبين».
واستدرك بصورة دبلوماسية: «وسوف نعالج القلّة من اليهود الذين هاجموا عرباً». كيف؟! وهو نفسه الذي طالب بإطلاق سراح قاتل الشاب موسى حسونة في اللد؟
المواجهات بين العرب واليهود هي في الحقيقة مواجهات بين الفاشيين المُغتصبين وبين العرب الذين تصدّوا لهم دفاعاً عن أنفسهم وعن ممتلكاتهم، وخرجوا للتعبير عن تضامنهم مع أنفسهم ومع مقدساتهم ومع إخوتهم في القدس وقطاع غزة.
أحداث الأسبوع الأخير أيقظت ذكرى النكبة والتَّهجير القسري الذي نفذته عصابات الاحتلال الصهيونية في العام 1948، حيث لم تكن فضائيات، ولا هواتف ولا سيارات إلا ما ندر منها.
مرَّت في ذاكرتي القرى النائية المعزولة عن العالم، التي أرهبوا أهلها العزل، فقتلوا بعضهم في الساحات والطرقات وفي بيوتهم، ثم أرغموهم على ترك قراهم ومدنهم تحت التهديد بالسّلاح، تذكّرت أنني من بقايا هذه الأسر التي تشظّت في عام النّكبة.
عندما ترى ما يجري اليوم تحت أنظار العالم في البث المباشر، وتزييف الحقائق وقلبها رأساً على عقب، تدرك هول ما حدث لأهلك وأبناء بلدك وشعبك في عام النّكبة الأولى في ظلمة تلك الأيام.
إنَّهم مسعورون…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 20.05.2021