ليس مفاجئاً ما نشرته وسائل الإعلام عن إجراءات وعقوبات في كوريا الشمالية، قد تصل إلى الإعدام، لأولئك الذين يلقى القبض عليهم متلبِّسين في مشاهدة مسلسلات من كوريا الجنوبية، وأولئك الذين يقلّدون نجوما رياضيين أو فنانين من الغرب في تسريحات شعرهم. هل هو تمسك في التراث وحفظا له خشية انجراف الشباب مع الأجنبي، وضياع الشخصية القومية والوطنية والقيم الأخلاقية؟
في الحقيقة أن هذا يعكس خوفاً عميقاً، فأي تغيير في الشكل، يُفسَّر على أنه براعم تمرّد، وعدم استسلام للواقع، فمن يبدأ بتغيير قصة شعره، وبارتداء موضة مختلفة عما هو سائد، فإنما يعلن أن في داخله رفضاً للنظام.
قد يكون الأمر معكوسا في مناطق أخرى من العالم، فالتمسك باللباس التقليدي، أو الانكفاء إلى القديم، يكون بالذات تعبيرا عن رفض الواقع، ويرى النظام فيه إشارات التمرّد، فالّلِحية مثلا غير مرغوب فيها في منطقتنا عموماً، وهي تحتاج إلى تفسيرات حول سبب إطلاقها، وكثيراً ما يساء فهمها. ديكتاتورنا بعكس الكوري الشمالي، يريد أن يبدو منفتحاً ومتحرّرا في الشكل، فارتدوا ما شئتم من الغرب، وقصّوا شعركم على طريقة نجوم الفن والرياضة، ولكن هذه هي حدود الحرية، وممنوع أن تنتقل إلى الرأي والفكر والإبداع والتنظيم السياسي.
إذن فالقضية ليست الشكل الذي يظهر فيه المواطن هنا أو هناك، ولكن في الرسالة التي يبثها شكل هذا المواطن، مع النظام أم ضده، مع القطيع أم خارجه؟ ما يخيف الديكتاتور ليس تفاهة المسلسل الكوري الجنوبي أو الأمريكي، ولكنه يخشى أن يرى مواطنه المحروم، مستوى حياة ورفاهية أكبر بكثير من أحلامه، والأهم أنه قد لا يكتفي بمشاهدة مسلسل تافه، فقد ينكشف على قيَم سياسية لا يعرفها المواطن الكوري الشمالي، أو محرّمة عليه، مثل انتخاب رئيس جديد للبلاد، أو محاسبة وإقالة مسؤول كبير ومحاكمته، أو إضراب عمال النظافة عن العمل لتحسين شروط عملهم، أو محاكمة مواطن صفع رئيس البلاد على وجهه، قد تكون عقوبته السجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، أو السجن الفعلي بهذه المدّة، وغرامة مالية، ولكنه لن يُلقى في قفص فيه ثلاثة نمور لم تذق طعاماً منذ أسبوع، ولن يعذّب حتى الموت، ولن تصبح كل أسرته منبوذة وملاحقة ومستباحة من قبل شبيحة وأجهزة النِّظام.
كثيرون ممن يحلمون في تغيير واقعهم السياسي، يبدأون عادة بالتمرُّد على شكلهم الخارجي، أو في تعبيرات الكتابة والفنون، ليقولوا بوعي أو بغير وعي منهم، بأنهم غير راضين عن واقعهم، ويحلمون بتغيير التقليدي والسائد. النظام الديكتاتوري يدرك جيدا أن التمرد على الشكل، قد يمتد إلى القضايا الجوهرية، لهذا يسخر منه، ويحاربه. هل هذا يعني أن الشاب المتماشي مع تيارات الموضة المختلفة أكثر وعياً من المتمسك بما هو تقليدي. هذا ليس بديهيا، فالشكل لا يُقرّر الجوهر الذي قد يكون خادعاً، والفكرة التي نبلورها عن شخص ما من شكله تتعلق فينا نحن وبفكرنا، وكثيراً ما نخطئ. إذا نظرنا إلى الصور القديمة لمقاتلين وثوار، من منظمة التحرير الفلسطينية، وقوى تقدمية في لبنان قبل أربعة أو خمسة عقود، نلاحظ الشَّعر الطويل، أو ذلك الذي يشبه البلاّن، والسَّوالف العريضة، وسروال الشيرلستون العريض في أسفله، الذي يغطي الحذاء كله، هذا في حينه لم يكن له أي تأثير سلبي في قناعات المقاتلين الثورية، ببساطة ارتدوا ما كان سائدًا وبدا جميلا في حينه، فمعايير الجمال تختلف من حقبة إلى أخرى، ومن موقع جغرافي وبيئة إلى أخرى. طبيعة الإنسان الشاب أنه يحب التجديد، ويحاول كسر الروتين والرتابة والتكرار. هذا تتيحه الأنظمة الديمقراطية، ولا يجد مقاومة في المجتمعات المنفتحة، فكل شيء قابل للتغيير والتعديل، ليس فقط شكل الملابس وقصات الشّعر، بل كذلك الرأي والمُعتقد والفكر والموقف السياسي أو الاجتماعي من كل قضية.
عندما يحرم ديكتاتور شعبه من الحرية باسم محاربة تقليد الأجنبي، فهو في الحقيقة يريد الاطمئنان إلى الثبات السياسي، وبأن المواطن لا يستهلك مادياً وروحياً إلا ما يوافِق هو عليه، ويعتبر أي محاولة للتغيير في الشكل انعكاساً لرغبة في تغيير الواقع السياسي، سواء كان هذا الشكل مستورداً ومنقولا عن الغرب أو عن الشرق، أو كان انكفاءً إلى التراثي القديم، كما في بعض بلداننا العربية، فالديكتاتور يريد الموضة والشكل، وما يراه الناس وما يسمعونه انعكاساً لجوهر واحد ووحيد على مقاسه بالضبط، وفقط بما يخدمه، وما دون ذلك يعتبر غريباً ومُستهجناً وتآمرياً، تجب محاصرته واقتلاعه من جذوره قبل انتشاره وتمكّنه.
الديكتاتور بين تسريحة شعر ولحية!!
بقلم : سهيل كيوان ... 10.06.2021