تمتزج المشاعر القومية في مباريات كرة القدم بالمشاعر الرِّياضية، وقد تطغى عليها، وتنطلق هتافات تلقائية متأثِّرة بالأجواء السياسية العامة، مشحونة بالعاطفة، فتطفو على السَّطح مشاعر دفينة دون كوابح أو غربلة، ودون تنميقات وديباجات لغوية، دون مجازٍ ولا تورية ولا استعارات، مباشرة بلا لفٍ ولا دوران، تعبِّر الجماهير عن أحساسيها فرحاً أو حزناً أو غضباً.
أرى في جماهير كرة القدم في الوطن العربي الممثل الشرعي للشعوب فيما يخص القضية الفلسطينية،هذه الجماهير العربية التي ترفع أعلام فلسطين وتنشد للقدس خصوصاً أثناء حدوث مواجهات ساخنة، هذا من شأنه أن يرفع معنويات الفلسطينيين، ويؤكد لهم بأنهم ليسوا وحيدين في معركتهم في مواجهة الاحتلال المدعوم من أعتى قوى العالم في السلاح والمال، وهذه أيضاً رسالة يتلقاها الإحتلال مباشرة من مدرّجات تمثل الشعوب العربية وليس من حكامها.
كم أثلجت صدورنا هتافات الجماهير على مدرجات الجزائر وتونس والمغرب والأردن ومصر وجزر القمر ودول عربية أخرى وحتى البوسنة، وبعض أنصار الفرق الأوروبية المهمة، ومن أمريكا اللاتينية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
هتافات تمنح الشعب القابع تحت الاحتلال طاقات جديدة وأملاً، وتحذِّر المحتلين بأن العالم يرى ويسمع ما يدور، وبأن الظلم مصيره وخِم.
هذه القوة المعنوية الهائلة تأتي من القواعد الأكثر شعبية، فهي ليست تصريحات رسمية باردة، كما عوَّدتنا الأنظمة التي تساوي بين صدور الضحايا العارية وجنازير دبابات الاحتلال، تساوي بين طالب الحرية والعدل وبين طائرة الإف 16، تساوي بين الفلاح والمستوطن الذي ينهب الأرض، بل هي رسائل وصرخات ألم وحبٍ حقيقي، تعبِّر عن الموقف الفطري السليم ضد الظلم ومن يمارسه، وليست فذلكات مبهمة تأخذ في حسابها كرسي الحكم والدعم الأمريكي وحماية الموساد لها.
يوم الأحد الأخير انطلقت هتافات كانت طعنات في الصدر الفلسطيني،لكن من مدرَّج المدينة التي أطلق عليها ناجي العلي لقب «الاسم الحركي لفلسطين» من المدرج الأخضر في أم الفحم، هتف الألتراس الفحماوي في مواجهة فريق إخاء الناصرة «يا نصراوي يا خنزير يلِّي سلّمت الأسير».
وهو ما أغاظ كل فلسطيني وعربي، وأفرح وسائل التحريض المتشفية، التي تبحث عن كل إسفين ممكن لتدقّه بين الضحايا أنفسهم، فرح بهذا الهتاف أولئك الذين يعذبِّون الأسير وينشئون السجون الجديدة ويوسّعونها لتستوعب المزيد من طلاب الحرية المقاومين، فرح من يقطعون الشجر ويسمِّمون الحلال ويقتلون البشر.
ما أقسى أن نرى هؤلاء الذين تقمعهم السُّلطات وتحرمهم من مقوِّمات الحياة الطبيعية، يتَّهمون بعضهم بالخيانة وتسليم الأسرى.
لو أخذنا هؤلاء الهتّافين وسألناهم إذا كانوا يعتقدون فعلاً بما نطقت به ألسنتهم، لقال معظمهم إنه لا يتعدى كونه هتافاً لاستفزاز جمهور الفريق الآخر، أو أنها ردة فعل على هتافات سابقة مستفزّة هتف بها النصراويون.
لكن هذا لا يبرِّر مثل هذه السَّقطة، ممكن أن أكرهك، وأن أصفك بأقذع الأوصاف إلا التخوين، فلا يوجد أقبح منها تهمة، وضررها المعنوي لا يقتصر على من يتهم بها، بل ينعكس على معنويات الكثيرين، وهي تهمة تُستغل بشكل مسيء للشعب نفسه ولكفاحه.
هتافات التخوين في مدرَّج أم الفحم أمام فريق إخاء الناصرة، أشد بشاعة وضرراً من هتافات جمهور بيتار القدس «الموت للعرب» و»العرب قذرون» لأن الطعنة أتت من حناجر الأخوة.
رداً على ما حدث، أصدرت بلدية أم الفحم بياناً قالت فيه «إننا انتصرنا رياضياً وهُزمنا أخلاقياً» واعتذرت لأهل الناصرة التي اعتبرتها قلعة وطنية وعُمقاً لأم الفحم، على ما بدر من ألتراس الفريق الفحماوي.
شعبنا مثل كل الشعوب المقهورة تحت وطأة احتلال طويل الأمد، منه من يحافظ على شرفه الوطني ويبقى نظيفاً، وقد يكلفه ذلك تضحيات، كبيرة أو صغيرة، حتى يرحل عن هذه الفانية، وقد يكون بيننا خوَنة ومتعاملون مع الاحتلال وخادمون له، لأسباب كثيرة تُفرزها تعقيدات الحياة،لكن لا شيء يبرِّر الخيانة،لكنه واقع نعترف بوجوده، فلا يوجد تحت الشَّمس شعب نظيفٌ وطاهرٌ تماماً، وعودة بسيطة إلى تاريخ شعوبنا العربية خلال نضالها للتحرر من الاستعمار ومن الاحتلالات الأجنبية، ونظرة إلى الشعوب الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وإلى فيتنام وإلى أفغانستان قبل أسابيع قليلة، تُظهر أنَّ الشعوب تتشابه في ردة فعلها على الاحتلال، ونرى أن غيرنا ليس أفضل منا، بل وقد نجد العكس، فشعبنا القابع تحت هجمة صهيونية بمشاركة قوى عظمى منذ قرن، ما زال مقاوماً ورافضاً للاستسلام للأمر الواقع، حتى بعد تقطيع أوصاله.
مع احترامنا لجماهير كرة القدم، ولمجموعات الألتراس أينما كانت، وحدتنا الوطنية أهم من الفوز في مباراة كرة قدم، وأهم من الدرجة الممتازة والعليا وغيرها.
ليس من حق مجموعة صغيرة في مجتمعنا أن تعيد تشكيل وعيه وصورته على شاكلة تفكيرها الضيِّق والسَّطحي والمحدود.
هذا واجب المسؤولين في أي بلد، وخصوصاً أولئك الذين يشرفون على إدارة الفرق الرياضية، وخصوصاً كرة القدم، أن يأخذوا مسؤولياتهم، وأن يعملوا على أن تكون المباريات بين الفرق العربية مناسبات للتضامن وتعميق الوعي في المصير المشترك.
جميل أن نعبِّرَ عن مشاعرنا الوطنية من خلال الرياضة، شرط أن يكون تعبيراً حقيقياً، لا يُنقص من احترام الفرق الضَّيفة والشَّقيقة بشكل خاص.
على مُدرّج الأخضر الفحماوي يوم الأحد الأخير كلنا خسرنا، سجل الألتراس هدفاً ذاتياً موجعاً، وربح أولئك الذين يهتفون «الموت للعرب».
بقدر ما تمثِّله أم الفحم في الذاكرة الفلسطينية، كانت هذه الجريمة الأخلاقية كبيرة بحق أم الفحم أوَّلاً، ثم بحق الناصرة وبحق شعبنا كلِّه.
عندما نفقد الأخلاق والمعايير الصحيحة، نخسر المباراة الأكبر، نخسر أنفسنا.
أم الفحم الاسم الحركي لفلسطين، كانت وستبقى كذلك، رغم العثرات والكبوات.
الناصرة كانت وستبقى قلعة وطنية مع أو بدون وقبل وبعد كرة قدم.
وشعبنا كله أقوى وأسمى بوحدته وبرقيّ هتافاته وشعاراته وممارساته التي تعكس جوهره ومعدنه الأصـــيل.
«جريمة حرب» على مُدرّج أم الفحم…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 23.09.2021