ننتظر... ننتظر، لم أعش انتظارًا مثل هذا من قبل؛ الأمّة العربيّة كلّها تنتظر، نحبس الأنفاس، قلوبنا تنخزنا، ويبدو الانتظار أكثر مرارًا وعبثًا من «انتظار غودو». ما أسهل بيع الأمل للجماهير، أن يستغلّ الإعلام هذه اللحظات لتتعلّق الملايين بمنصّاته، وما أمكر أن تفعل الدولة الأمر نفسه وتستغلّ القضيّة كلّها؛ لتلعب دور البطولة بعد أن كانت خائنة منذ لحظات.
ننام، نستيقظ، نذهب إلى العمل، نأكل ونشرب، لكن ليس ثمّة على ألسنتنا غير سؤال واحد: "هل خرج ريّان؟"، نسأله لبعضنا البعض ولأنفسنا ونتابع الأخبار. كانت الآمال كبيرة أن يخرج الطفل المغربيّ ريّان، الّذي وقع في بئر والده حيًّا، أجل... بئر والده، وليست بئرًا لغريب أو جار لهم، فالمزارعون في تلك الأراضي النائية يحفرون آبارهم الارتوازيّة بشكل غير قانونيّ ليسقوا الأشجار في ظلّ ندرة الأمطار؛ فوقع ريّان في البئر، ولن يعرف أحد أنّ «الطفل في المغارة» سيصبح أيقونة إنسانيّة إلّا بعد خمسة أيّام من البحث، وقد أصبح كذلك بحقيقة موته.
الفرح المنقوص
ربطنا فرحنا المنقوص وخيباتنا الشخصيّة بمصير هذه الحادثة، كأنّ نجاة ريّان تعني قيام الأمّة وانعدال حالها، وأن تدخل السعادة حياتنا، والحقيقة أنّه ربّما كان سيحدث الكثير من ذلك لو ظلّ حيًّا. كنت سأنسى تطبيع النظام المغربيّ مع إسرائيل وظلمه لأهل الصحراء، وما فعلته ملكة جمالها في دولة الاستعمار؛ وكنت سأنسى، لكن هل أحمّل ريّان أكثر ممّا يحتمل، كما فعلت الدولة؟
ربطنا فرحنا المنقوص وخيباتنا الشخصيّة بمصير هذه الحادثة، كأنّ نجاة ريان تعني قيام الأمّة وانعدال حالها، وأن تدخل السعادة حياتنا. والحقيقة أنّه ربّما كان سيحدث الكثير من ذلك لو ظلّ حيًّا...
شعرت بتقدير وصفح تجاه الدولة المغربيّة، لما رأيته من جهود ضخمة لإنقاذ طفل وحيد في بئر نائية، ولست وحدي في ذلك، بل ملايين العرب، حتّى جزائريّون مستاؤون منها؛ فالكوارث الطبيعيّة توحّد الإنسانيّة. لكنّني لست ساذجة، كان يجب أن أتذكّر ألّا أثق بنظام عربيّ؛ فماذا فعلوا بكلّ المآسي على مرّ العقود الماضية؟ أنظمة تتألّف من الفشلة والمتيبّسين خلال الأزمات ولا تَزِنُ حياة المواطن عندهم شيئًا مقابل تلميع الملوك والسادة. هل نسينا ما حدث في صخرة الدويقة في المقطّم في مصر عام 2008، الّتي حتّى الآن لا يزال العشرات مدفونين تحتها ولم يحرّكها أحد، وعبّارة الموصل في العراق الّتي حتّى اللحظة ومنذ ثلاثة أعوام لم يُحاسَبْ مسؤول عن غرقها، أو الطلبة الّذين غرقوا في الأردنّ خلال رحلة إلى وديان البحر الميّت ولم يُعاقَب أحد على موتهم؛ كلّ رخص أرواحنا هذا لدى السادة لم يعلّمنا سوى المزيد من توهّم الأمل.
هل رأيتم البيان الملكيّ الأخير الّذي جاء فيه جلالة الملك (حفظه الله – نصره الله – أعزّه الله) ينعى طفلًا كان موته فضيحة لمملكته؟ خلال خمسة أيّام، بلغ صدى القضيّة فيها أقصى مدى وبجميع اللغات، والعالم كلّه يشعر بثقل الوقت على روح الطفل النحيل ريّان في جوف الأرض، كأنّه عصفور في قبضة يد تضغط عليه رويدًا رويدًا؛ لا أحدَ شعر بأنّ ثمّة وقتًا غير الحكومة المغربيّة الّتي بدا كأنّ لديها كلّ الوقت؛ تُفْرِدُهُ، تتنعّم فوقه، تتكلّم، تناقش الملك وتكذب؛ لم تكن إجراءاتها سريعة وحاسمة بالشكل المطلوب وكان تحرّكها متأخّرًا، واستقدام الآليّات متأخّرًا، وكذلك الحفر، ورفضت مساعدات الدول الخارجيّة ولم تجرّب أيّ طريقة إنقاذ أكثر حيويّة وتطوّرًا، بل شمّرت عن ساعديها في استعراض بطوليّ زائف تريد منه هزم جبل في جوفه طفل ينازع الحياة.
لقد حفرت الجبل فعلًا، لكن ليس من أجل الإنسان، إنّما من أجل صورتها؛ فحين أخرجت الطفل في مسرحيّة زعمت خلالها أنّه حيّ، وأَسْطَرَتْ نفسها أمام العالم لبذلها أقصى مجهوداتها، حتّى تصرخ الجماهير من جديد: "عاش الملك... عاش الملك"، لكن، ما هي إلّا دقائق قليلة حتّى ظهر بيان الملك الّذي كان قد حُضِّر مسبقًا، يعلن موت الطفل في سياق تمجيد وقح لمجهود الدولة. لقد كانت الكاميرات بحوزتهم ولم يتركوا أحدًا يقترب منها سوى في اليوم الأوّل، فهل كانوا يعرفون بأنّه ميّت منذ أيّام ويكذبون علينا؟
لقد استمرّت القوّات الوطنيّة الّتي ترأّست عمليّة الإنقاذ في التعتيم الإعلاميّ على الرغم من شكاوى المراسلين على القنوات من شحّ المعلومات، ليظهر مسؤول في القوّات الوطنيّة بين الحين والآخر مؤكّدًا أنّ الطفل على قيد الحياة.
لقد بثّوا في البداية بضع لقطات لإصابة ريان تحرّك فيها قليلًا، وبعد ذلك غابت الحقائق. ريّان لم يشرب أو يأكل، وكان وحيدًا في العتمة ودرجة حرارته منخفضة، بينما الحكومة إعلاميًّا تحشد وتروّج لنفسها، صانعةً لنفسها شعبيّة في ظلّ إعلان تطبيعها مع إسرائيل، ونفاقم أزمتها السياسيّة مع الجزائر. لقد وجدت في قصّة الطفل الفلّاح من القرية النائية أداةً تستخدمها، كما تفعل أنظمة كثيرة مع مآسي مواطنيها واحتياجاتهم، لتظهر نفسها صاحبة فضل عليهم، لتغطّي على فشلها.
الدولة تكذب
الآن، وبعد إعلان وفاة الطفل، بدأت تظهر الانتقادات على القنوات الإخباريّة، وتظهر الأسئلة الّتي كان يجب أن تُطْرَح مبكّرًا؛ فلماذا لم تُسْتَخْدَم أساليب إنقاذ حديثة؟ كان الإعلام العربيّ متخبّطًا؛ فقد وثق بالإعلام المغربيّ الخاضع للرواية الرسميّة. عندما حذّرت على صفحتي الشخصيّة من التعتيم الإعلاميّ والإغراق بالأكاذيب، وصلتني عشرات رسائل الشتم والسباب، وكتب أحدهم على صفحته بعد مشاركة منشوري: "لذلك أدافع عن التطبيع مع إسرائيل، لأنّكم حشرات [أي الفلسطينيّين]"، كذلك لامتني صديقة وقالت: "مكّة أدرى بشعابها"؛ لكنّ القضيّة تجاوزت حدود المغرب ولم تعد تقع تحت اختصاصات ملكها؛ إنّها قصّة موت معلن، بل موت عالميّ.
قضيت وقتًا صعبًا قبل قضيّة ريّان بسبب وفاة جدّتي عقب إصابتها بفيروس «كورونا»، وعشت في تلك الأيّام معنًى جديدًا للفقد القريب، وفهمت معنى قول الناس إنّهم يشتاقون للموت كي يلقوْا أحبّاءهم. ثمّ فجأة ظهر العزاء الأكبر الّذي سلبني عزائي الصغير على جدّتي، وأصبح الموت عدوًّا من جديد، لا أريده وأكرهه، بل يجب أن تتغيّر نواميس الطبيعة كي يبقى ريّان حيًّا.
ومع ذلك، القصّة اليوم ليست قصّتي ولا تدور حولي، بل أريد أن أروي كيف وقعنا جميعًا في الفخّ، وأوّلنا عائلته الّتي فرحت بالاهتمام، كما فعلت قريته الّتي عاشت الرواج الإعلاميّ. ثمّة آلاف القرى الجبليّة في دول المغرب العربيّ الّتي ابتلعها الفقر وتعاني من شحّ المياه، ندرة المدارس، خطورة الطرقات وقسوة الطقس؛ لكنّه ’مكتوب‘ كما يقولون هناك، مكتوب هذا ’الدَّري‘ [الطفل بالدارجة المغربيّة]، ليبتلع أهل القرية وعائلة الطفل والعالم الوهم عبر الأخبار الرسميّة بعناوين جذّابة استمرّت لأيّام مثل: "اقتربت اللحظة الحاسمة"، "على بُعْد بضعة أمتار من الطفل"، "الإسعاف دخل المكان"، "وصلت الآليّات، الطائرات والإسعاف"؛ هذا كلّه ليغطّي مع مرور الوقت على آلام الطفل المصاب الّذي لا يأكل ولا يشرب، ولكي يغطّي لاحقًا ننتبه لمقدار الفشل.
كأنّهم "ألقوه في غياهب الجبّ" من جديد. كان يمكن ربّما تجريب إنزال أشخاص في فوّهة البئر بشكل عكسيّ كما حدث في رومانيا والصين من قبل، أشخاص يتمتّعون بمرونة وحيويّة جسديّة وقادرين على تحمّل ضيق المكان. كان ثمّة حاجة للمغامرة ربّما، لا الدقّة والحساسيّة. لم تكن حياة طفل في الخامسة تحتاج إلى تسطير ملحمة كما يفعل إعلام الملك. والآن، فات أوان هذا الكلام الّذي قلته وقاله غيري على مدار الأيّام الماضية، ولم أجد ردًّا عليه غير السباب والغضب.
كانوا فقط يحتاجون إلى إذن محمّد السادس ليُعْلِنوا الخبر، وأن يكون الملك مستعدًّا قبل عائلة ريان، منعوا والدته من البكاء، أوقفوها مثل المومياء بينما هي تعرف بموت ابنها...
كانت مراسلة «قناة الغد» الوحيدة والأولى الّتي سرّبت خبر وفاة ريّان، بينما العالم ينتشي فرحًا وهو يشاهد الطفل يمرّ بين الحشود محمولًا على حمّالة الإسعاف، والقرية تحتفل برجال الحماية بإلقائهم في الهواء، والهتاف للملك يتصاعد، ولا أحد يعرف كم هي أنظمتنا الأمنيّة محترفة في التمثيل. شتمنا المراسلة، لم نُرِدْ أن ينغّص أحدٌ علينا غيبوبة النصر، ثمّ في لحظة عرفنا أنّها كانت على حقّ.
كانوا فقط يحتاجون إلى إذن محمّد السادس ليُعْلِنوا الخبر، وأن يكون الملك مستعدًّا قبل عائلة ريّان، وبذلك عاش الملك، ومات الولد. لكنّ لحظات الأمل والانتظار الطويلة الّتي عشناها تثبت أنّ الّذي عاش ريّان، يخرج من بين الحشود ويشير إلى عُرْيِ الملك، بل إلى موته.
**كاتبة فلسطينيّة مقيمة في فرنسا، صدر لها عام 2016 كتاب مشترك مع الروائيّ سليم نصيب «L’insoumise de Gaza»، تُرجِمَ إلى الإنجليزيّة والروسيّة. لها مجموعات قصصيّة أخرى صدرت في كوريا الجنوبيّة وبريطانيا.
عاش ريّان... مات الملك!!
بقلم : أسماء الغول ... 07.02.2022
*المصدر : عرب48