نصبت القوات الإسرائيلية، في مطلع فبراير/ شباط الماضي، كميناً باستخدام سيارات تحمل لوحات فلسطينية، وقتلت ثلاثة فلسطينيين في نابلس، ينتمون زعماً إلى كتائب شهداء الأقصى، بعدما هدّدتهم شهوراً، هم وعائلاتهم، بالاغتيال إنْ لم يسلموا أنفسهم. ومع أنّ نابلس تقع كلياً ضمن المنطقة أ، الخاضعة زعماً لسيطرة السلطة الفلسطينية التامة، فإنّ المداهمات الإسرائيلية ليست غريبة عليها. وسبّبت عمليات الاغتيال المستهدفة صدمةً وغضباً في أوساط الفلسطينيين. ردَّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، كما يفعل في كلِّ مرةٍ تقريباً يواجه فيها ضغوطاً شعبية، بالتلويح بإنهاء التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ولكن كما في المرّات السابقة التي أطلق فيها التهديد ذاته، لم تحدُث تغييراتٌ حقيقية. وبحسب أحد المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين، هذا التهديد غير الحقيقي "ليس إلّا تصريحاً سياسياً آخر".
لا تنفكّ مثل هذه الإجراءات الفارغة تُعزّز انعدام ثقة الفلسطينيين بالسلطة الفلسطينية، منذ إنشائها في عام 1994 منتجاً ثانوياً لاتفاقات أوسلو. وبينما تستمر إسرائيل في توسيع بنيتها التحتية الاستيطانية، وإحكام سيطرتها على الحركة الفلسطينية والحريات الأخرى، وممارسة العنف المباشر ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون عقاب، يتساءل الفلسطينيون عمّا إذا كان هنالك مَن يمثّل مصالحهم حقاً. وما يزيد الطين بلة أنّ السلطة الفلسطينية وحركة حماس تطبقان أساليب سلطوية استبدادية لقمع المعارضة، فليس من المستغرب، إذاً، أن تكشف استطلاعات الرأي العام الفلسطيني أنّ ثلاثة أرباع الفلسطينيين يريدون استقالة عبّاس، و56% ينظرون إلى السلطة الفلسطينية عبئاً، وقلة ترى أنّ أوضاعها المعيشية إيجابية (31% في الضفة الغربية، و5% فقط في غزة).
تكشف استطلاعات الرأي العام الفلسطيني أنّ ثلاثة أرباع الفلسطينيين يريدون استقالة عبّاس، و56% ينظرون إلى السلطة الفلسطينية عبئاً، وقلة ترى أنّ أوضاعها المعيشية إيجابية
في خريف عام 2021، تحدثتُ إلى 19 فلسطينياً في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 1948 وفي الشتات، بصفتي زميلة السياسات الزائرة لشبكة السياسات الفلسطينية في الولايات المتحدة. ومع أنّ المحادثات تركزت على صياغة رؤية جديدة للتنمية بقيادة الفلسطينيين في قطاعي التعليم والصحة، إلّا أنّ عديدين من المحاورين عبَّروا عن انتقاداتهم اللاذعة للقيادة الفلسطينية، واصفين السلطة الفلسطينية وحركة حماس عقبتين أمام التحرير الفلسطيني الحقيقي. وأعربوا عن استيائهم من أنّ تلك الجهات الفاعلة شبه الحكومية، المفتقرة للسيادة، والتي لم تنظم انتخابات منذ نحو عقدين، تركت الشعب الفلسطيني تحت رحمة المانحين ووكالات العمل الإنساني لتلبية احتياجاتهم، حتى الأساسية منها، لا سيما في الصحة والتعليم. ويبدو أنّ التباين بين أولويات الجهات الفاعلة الحكومية واحتياجات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لم يكن قطُّ شاسعاً بقدر ما هو عليه اليوم.
يرى عديدون من المقابَلين أنّ غياب العمليات الانتخابية وغياب كل أشكال المساءلة جعلا عديدين من القادة الفلسطينيين منفصلين تماماً عن القضية الأكبر المتمثلة في التحرير الفلسطيني، بينما يكنزون الثروة لأنفسهم وعائلاتهم. وبحسب أحد المقابَلين "غدت السلطة الفلسطينية والنخبة الفلسطينية أكثر اهتماماً بمصالحها الخاصة، وحوّلت الحركةَ الفلسطينية إلى مقاول فرعي لإسرائيل". ثروة هؤلاء ونفوذهم يقيانهم، بطريقة ما، من جُلِّ واقع الاحتلال الإسرائيلي المستمر، ومصادرة الأراضي، والعنف.
النخبة الفلسطينية قادرة، مثلاً، على إرسال أبنائها إلى مدارس خاصة أو مدارس في الخارج، وقادرة على شراء الأراضي المتزايدة أثمانها والمتبقية في الضفة الغربية واستيراد المواد اللازمة للبناء؛ وقادرة على الحصول بسهولة أكبر على تصاريح الحركة الإسرائيلية؛ وقادرة على السفر إلى الخارج أو دفع تكاليف الرعاية الطبية الخاصة في الأراضي المحتلة، مثلما سافر الرئيس عبّاس إلى ألمانيا في إبريل/ نيسان 2021 لإجراء "فحص طبي" انطلاقًا من رام الله إلى مطار عمّان بالطائرة المروحية، متجاوزاً تجربة المعابر الحدودية المرهقة المفروضة على الفلسطينيين كلما أرادوا السفر من الضفة الغربية، فضلاً عن الفلسطينيين في غزّة الذين نادراً ما يُسمح لهم بمغادرة القطاع لأيّ سببٍ كان.
السلطة الفلسطينية وحركة حماس تطبقان أساليب سلطوية استبدادية لقمع المعارضة
لقد ألقى هذا الانفصام بين الفلسطينيين وقيادتهم دوراً أكبر مما ينبغي على كاهل الجهات المانحة في تحديد أولوياتٍ إنمائيةٍ لا تلبي احتياجات الفلسطينيين، لا من الناحية المادية من خلال تفضيلها المشاريع قصيرة الأجل على المبادرات المستدامة طويلة الأجل، ولا من الناحية السياسية من خلال نأيها عن الجهود التي تتحدّى حل الدولتين أو تنتقدُ إسرائيلَ علانية. وفي هذا الصدد، قال أحد المقابَلين ممن كان يعمل في قطاع المنظمات غير الحكومية إنّ "المانحين يدركون العبثية السياسية للاحتلال، ومع ذلك ينأون عن القيام بأي شيء يُعدّ سياسياً. فهم مستعدّون لتقديم التمويل قدرَ ما أمكَنهم من دون أن يطلبوا من إسرائيل الكثير". وفي غضون ذلك، تمضي السلطة الفلسطينية "وكأنّ الدولةَ الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى، وأنّ المانحين سعداء بدعمها في ذلك"... عدم فاعلية السلطة الفلسطينية وما تمارسه من قمع يُرسخان الشعور بالخيانة لدى الشعب الفلسطيني. وبحسب طالب جامعي من الضفة الغربية، الأجيال السابقة "ضحّت بالكثير، وما حصلت عليه هو السلطة الفلسطينية. لا بدّ من إجراء كثير من الإصلاحات من أجل محاولة إعادة بناء الثقة في النسيج الاجتماعي".
أَجمعَ المقابَلون كلهم على التحدّيات التي تواجه الفلسطينيين، ولكنهم اختلفوا على الخطوات التي ينبغي اتخاذها، فبعضهم يعتقد أن الإصلاح داخل السلطة الفلسطينية هو النهج الصحيح، مع الإبقاء على مشاركة الجهات الدولية الفاعلة والبناء على المؤسسات الهزيلة التي استُحدثت، ولكن مع التركيز أكثر على تطلعات الفلسطينيين بدلاً من تطلعات المانحين. قال لي أحد المقابَلين: "هناك أناسٌ طيبون حقًا في السلطة الفلسطينية، لكن المانحين يتحكّمون في كل شيء." وفي المقابل، اعتقد آخرون أن "الرفض الكامل للنظام السياسي" هو السبيل الوحيد. واعتبروا أنّ السلطة الفلسطينية ليست سوى "مشروع استعماري جديد للهندسة الاجتماعية وبناء المؤسسات من أجل السيطرة على السكان وتحجيم المقاومة المنظمة ضد الاحتلال".
عدم فاعلية السلطة الفلسطينية وما تمارسه من قمع يُرسخان الشعور بالخيانة لدى الشعب الفلسطيني
يعيش الفلسطينيون حالةً من فراغ الحكم من دون عدالة أو حلٍّ يلوح في الأفق، في ظل شحّ القنوات الرسمية المتاحة لهم للتعبير عن أنفسهم بحرية. ونتيجةً لذلك، يتطلع عديدون من الشباب الفلسطيني إلى مغادرة فلسطين كليًا. وأمّا الباقون فيفضلون البقاء والسلامة على تعزيز "ثقافة المعارضة الفكرية" التي كانت تاريخياً جزءاً من حركة التحرير الفلسطينية. وبحسب أحد المقابَلين، فإنّ "قَطّارة المانحين" تَذرُ الناس "مخدّرين ومنقسمين ومركِّزين على الإنتاج بدلاً من التحرير".
بِمَ يُنذر هذا الوضع بالنسبة إلى التحرير الفلسطيني؟ لم يكن المقابَلون متأكّدين، ولم يكونوا متفائلين عموماً بشأن المستقبل في المدى القصير. أمّا في المدى البعيد، فيعتقدون "أنّنا إذا تمكّنّا من إيجاد الوعي السياسي الراسخ، وكان لدينا جيلٌ يؤمن بهذه القيم بالفعل" فقد يكون المستقبل مختلفًا. وساقوا أمثلةً من قبيل حركة "حياة السود مهمة" في الولايات المتحدة، وإنجازات المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، ليبيّنوا كيف أنّ التغيير ممكنٌ بالرغم من ضآلة الاحتمالات. واختتم أحدُ الناشطين، الذي كان لا يزال متردّداً في تفاؤله، بقوله: "هذه دولة فصل عنصري استعماري استيطاني. لذا ثمّة شعور متأصلٌ باليأس والصدمة. لكنّ التحرير أقرب إلى التحقيق ممّا نعتقد".
التحرير ومحدودية الحوكمة الفلسطينية!!
بقلم : يارا عاصي ... 20.04.2022
*المصدر : العربي الجديد