تحتفل إسرائيل اليوم الخميس، بما يسمّى «يوم الاستقلال» الذي يستند إلى أسطورة التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني، وإقامة الدولة المستقلة، التي حلمت بها الأجيال اليهودية المتعاقبة. وتقوم إسرائيل باستعراض عضلاتها العسكرية وتنتشر الفعاليات الاحتفالية على طول البلاد وعرضها. في المقابل يحيي فلسطينيو الداخل في اليوم نفسه ذكرى النكبة والتهجير، تحت شعار «يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا» للتأكيد على الحد الفاصل بين أهل البلاد الأصليين، الذين جرى تهجيرهم، ومن سلبوا الأرض واستوطنوا فوقها. وما يميّز هذا اليوم في إسرائيل هو الجرعة السامة من الكذب والتضليل وتزييف التاريخ والحقائق، لمنح شرعية للمشروع الإسرائيلي ولإثبات أن إسرائيل حصلت على «استقلال» عام 1948، وللتغطية أن ما حدث فعلا هو استبدال استعمار تقليدي باستعمار استيطاني إحلالي أفظع بما لا يقارن. وفي الحقيقة أننا بصدد احتفال «يوم الاستعمار» في إسرائيل، وهذا ليس إحياء لذكرى مضت، بل هو فعل يومي متواصل في الجليل والنقب والضفة والقدس، وأرجاء فلسطين التاريخية كافة.
كذبة الاستقلال
ما حدث عام 1948 لم يكن تحررا من الاستعمار ولا استقلالا، بل أكبر عملية سطو مسلّح في القرن العشرين، تم خلالها الاستيلاء على وطن بأكمله. فقد عملت الحركة الصهيونية عام 1948، على إقامة دولة يهودية في بلاد تقطنها أغلبية عربية فلسطينية، وكان من المستحيل تحقيق هذا الهدف دون استعمال القوّة العسكرية لتهجير أهل البلاد، وضمان أغلبية يهودية، وهذا يسمّى بلغة القانون الدولي المعاصر «تطهير عرقي». وفعلا قامت القوّات الصهيونية بتهجير حوالي 800 ألف فلسطيني، هم الغالبية الساحقة من السكّان في المناطق، التي استولت عليها إسرائيل، وحوّلتهم إلى لاجئين بحرمانهم من العودة إلى ديارهم. من هنا فإن استعمال كلمة حرب الاستقلال هو كذبة كبيرة، لأن الانتقال من الانتداب البريطاني إلى الاستعمار الإسرائيلي كان تعميقا للكولونيالية وليس تحررا منها، وكيف لمستعمرٍ أن يدعي الاستقلال؟
فشل الهدف
كان الهدف الأوّل للحركة الصهيونية وما زال هو بناء «بيت» آمن لليهود في العالم، لكنّها لم تحقق الهدف، حيث إسرائيل اليوم هي أكثر المواقع في العالم خطورة على اليهود، بعد أن زجّتهم الصهيونية في صراع دام تبعا لسياساتها الاستعمارية العدوانية العنيفة. وإذ تدعي إسرائيل الدولة ومفكّرو بلاطها أن «استقلال إسرائيل» هو خلاص، أو بداية خلاص اليهود من معاناة الملاحقة واللاسامية، وحصولهم على الأمن والأمان المفقودين في بلاد «الشتات» فإنّ هذا الادعاء لا يصمد بامتحان النقد المحايث ويتهاوى أمام حقيقة أن كل دول العالم هي أكثر أمانا لليهود من دولة اليهود.
ضرورة التفنيد
تنطلق الرواية الصهيونية من أن «استقلال إسرائيل» يندرج ضمن صيرورة التحرّر الوطني، وممارسة الشعوب لحقّها في تقرير المصير. وهي تستند أساسا إلى مقولة استحالة أن يكون اليهود مواطنين مثل بقية المواطنين في دول العالم، وإمكانية أن يكونوا شعبا مثل بقية الشعوب لهم دولتهم الخاصة بهم. وهذه محاولة للي عنق التاريخ والشرعية والقانون الدولي، إذ لا شرعية لتجسيد حق تقرير المصير لأي شعب على أراضي شعب آخر، ولا شرعية كذلك لاختراع حق تقرير المصير على أساس الدين أو الأساطير التاريخية، من دون تشكّل أمّة على أرض محدّدة.
وتتمادى الرواية الصهيونية إلى القول بأن المستوطنين اليهود في فلسطين كانوا ضحية «اعتداءات» السكّان المحليين، وتسمّي عملية التطهير العرقي في فلسطين «حرب الاستقلال» وتتهم الجيوش العربية التي دخلت حرب 48 لحماية الشعب الفلسطيني، بأنّها هي من مارس العدوان على دولة أصبحت دولة بمجرد إعلان «الاستقلال». لا مبالغة في القول إن شعب فلسطين لن يستطيع تصحيح الغبن التاريخي، الذي لحق به، من دون تفنيد الرواية الصهيونية وتفكيكها تماما، فحين يصدّق العالم حكاية أن الذي حدث عام 1948 كان «حرب استقلال» وحتى لو جرى الاعتراف بهذه السردية كرواية مشروعة، فإنّ هذا ينفي تلقائيا رواية الضحية الفلسطينية. وعليه لا يكفي أن يحكي الفلسطيني حكايته ليقف العالم معه، عليه وعلى كل طلّاب العدالة أن يقوّضوا رواية المجرم الصهيوني وينسفوها من أساسها. والمعركة هنا واضحة، فرواية المجرم بالضرورة محشوّة بالأكاذيب للتغطية على الجريمة، ورواية الضحية تهدف بشكل طبيعي إلى الكشف عن الحقيقة، لكنّها ليست واضحة من تلقاء ذاتها، ولن تكون كذلك إذا لم تجد من يوضّحها.
الصراع على الأرض ما زال قائما والصراع على المعنى على أشدّه بين أكاذيب الاستقلال الصهيونية وصرخات ضحايا الصهيونية، الذين أفشلوا احتلال الوعي بعد احتلال الأرض
بين وثيقتين
جاء الإعلان عمّا يسمّى استقلال إسرائيل، في وثيقة مؤسّسة، تلاها دافيد بن غوريون، قائد الحركة الصهيونية في اجتماع «مجلس الشعب» في 14 أيّار/مايو عام 1948، ويجري الاحتفال سنويا بهذه المناسبة وفق التقويم العبري. وتعتبر «وثيقة الاستقلال» الوثيقة التأسيسية للدولة العبرية والمحدّدة لطابعها والمعبّرة عن هويّتها وتوجهاتها العامة. وهي تشمل تلخيصا للرواية الصهيونية المركزية حول حلم شعب إسرائيل بالعودة إلى «وطنه» وحول السعي للسلام والديمقراطية والمساواة بين المواطنين. وهي في جوهرها نص تبريري لإقامة الدولة استنادا إلى محاولة منح بعد قومي للمشاعر الدينية اليهودية، وإلى وعد بلفور الاستعماري وإلى الجزء المتعلّق بإقامة دولة يهودية في قرار التقسيم. وقد تبين أن بن غوريون استبدل تعبير «في إطار» الذي جاء في المسودة الأولى للوثيقة، بتعبير «على أساس» قرار التقسيم للتملّص من الالتزام بالجزء الخاص بإقامة دولة فلسطينية. وكثيرا ما تلوّح إسرائيل بهذه الوثيقة للتعبير عن شرعية الوجود، وعن أن إسرائيل هي جزء مما يسمّى الأمم المتحضّرة.
لكن في عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي، قانون «إسرائيل ـ الدولة القومية للشعب اليهودي» الذي أصبح النص المؤسس الجديد للدولة الإسرائيلية، وهو تعبير عن الصهيونية عارية، بلا أقنعة السلام والمساواة والديمقراطية، التي جاءت في «وثيقة الاستقلال» الأصلية. وفي الوثيقتين يرد المبدأ نفسه الناظم للكيان الإسرائيلي، وهو «الحق التاريخي في أرض إسرائيل» إلّا أن «قانون القومية» يعبّر بشكل أفضل عن جوهر حقيقة إسرائيل، بلا رتوش وبلا تجميل.
يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا
منذ 25 عاما وعلى التوالي، تحيي الجماهير الفلسطينية في أراضي 48، ذكرى النكبة في اليوم ذاته الذي تحتفل فيه إسرائيل باستقلالها، وذلك كصرخة رفض وتحد، وكمحاولة متواضعة لتعكير أجواء الاحتفال الإسرائيلي بالانتصار على الشعب الفلسطيني وتشريده من أرضه. وتنظم «مسيرة العودة» السنوية إلى إحدى القرى المهجّرة، التي أُبعد أهلها عنها، لكنهم بقوا في الداخل وسكنوا بلدات فلسطينية في المثلث والجليل والنقب، وهم يشكّلون ما يقارب 20% من فلسطيني الداخل. ويشارك في «مسيرة العودة السنوية» الآلاف من الناس، غالبيتهم من الشباب، الذين يعبّرون عن تمسكهم بحق العودة الذي لا يسقط بالتقادم. وكثيرا ما يصطدم السائرون في مسيرات العودة بالإسرائيليين المحتفلين بعيد «الاستقلال» في أحضان الطبيعة الخلابة المحيطة بمواقع القرى المهجّرة. لقد أصبح الشعار المركزي لمسيرات العودة هو «يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا» وهو تذكير مدوّ بأن الصراع على الأرض ما زال قائما وأن الصراع على المعنى على أشدّه بين أكاذيب الاستقلال الصهيونية وصرخات ضحايا الصهيونية، الذين أفشلوا احتلال الوعي بعد احتلال الأرض.
احتفالات في الخليج
في الوقت الذي تجري فيه محاولات حثيثة لتفكيك مفهوم «الاستقلال» في السياق الإسرائيلي، تقوم أطراف عربية بشحنه بشرعية عربية جديدة، فقد جرت ولأول مرّة احتفالات رسمية في الخليج بمناسبة «يوم استقلال إسرائيل» بدأت بإحياء ذكرى «شهداء معارك إسرائيل وضحايا الأعمال العدائية» حيث ألقى السفير الإسرائيلي في الإمارات العربية المتحدة، أمير حايك كلمة جاء فيها حرفيا: «إسرائيل تتعاون مع الراغبين في السلام والاستقرار والبناء، لذا نتعاون مع الإمارات.. وهنا في أبو ظبي نطأطئ رؤوسنا احتراما وإجلالا للذين بموتهم منحونا الحياة».
احتفالات من هذا النوع في دولة عربية، ليست مجرد مسألة رمزية، وليست مؤشّرا على عمق التحالف، بل هي أيضا مساهمة فاعلة في الترويج للرواية الصهيونية التاريخية، سواء بالنطق المباشر أو بتوفير المظلّة لأبواق إسرائيل، التي تتشدّق بشرعية سابقة ولاحقة لاستقلال الدولة الصهيونية، التي قامت على أرض فلسطين على حساب شعب فلسطين. والسؤال كيف نسمّي دولة عربية تحتفل باستقلال إسرائيل، دولة مستقلّة؟
احتفالات «يوم الاستعمار» في "إسرائيل"!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 05.05.2022