لعل الموسيقى والغناء أكثر الفنون تأثيرا، فهو الأقرب إلى الجمهور، ويمكن صناعته وتسويقه بسرعة كبيرة، مقارنة بغيره من الفنون التي تحتاج إلى مساحة زمنية أكبر حتى تنتشر، مثل المسرح والرواية والشعر الحديث والفنون التشكيلية، وهي محدودة الانتشار أصلا مقارنة بالغناء.
بإمكان الجمهور أن يحفظ لازمة أغنية ما خلال دقائق، وأن يتحرك على إيقاعها إذا أُطلقِت في اللحظة المناسبة، وفي المستوى الفني الخالي من التعقيدات الفنّية!
الأغنية قد تختصر المحاضرات والدراسات والخطب ببضع كلمات محمولة على أوتار وإيقاع، تحيي مشاعر التضامن ووحدة المصير بين الناس. في الوقت ذاته قد يكون الفن بما في ذلك الأدب تافها، يزرع الخواء والفساد وتبرير وتزيين أعمال الطغاة، وحتى تبييض صحفهم وجرائمهم، وحتى الإشادة بها.
في مطلع هذا الأسبوع، مُنعت الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي من دخول مصر، رغم أنّها كانت مدعوة من قبل دار الأوبرا للغناء في القاهرة والإسكندرية. ما يثير التساؤل، هل لناي البرغوثي وغنائها هذه القوة التي تجعل نظاما عسكريا يتحكم في دولة إقليمية كبيرة، يمنع دخولها، من خلال حساباته الأمنية؟ هل تملك أغنية لناي البرغوثي أو غيرها كل هذه القوة التي تجعل نظاما، قمع مئات الآلاف، بل ملايين البشر، يمنع دخولها أراضيه؟ يتبادر لأول وهلة، بأنها عقوبة للفنانة على أغنية غنّتها، أو نتيجة توقيع لها على عريضة تهاجم النظام ورمزه الأعلى! وهذا ليس مؤكّدا، فهي أعادت توزيع أغنية الشيخ إمام وكلمات أحمد فؤاد نجم (هما مين واحنا مين)، ولم تغنّ مباشرة ضد النظام الحالي، ولكن كما يبدو، يكفي أن تغني ضد الظّلم في أي مكان وزمان، حتى تصبح مشبوها وغير مرغوب فيك لدى كل نظام قمعي. الأرجِح أنهم سوف يسمحون لاحقا لناي البرغوثي بالدخول إلى مصر، ولكن الرسالة وصلت، فهذا نوع من التحذير لجميع الفنانين المعروفين بالالتزام تجاه قضايا شعوبهم، وبتكريس فنِّهم لخدمة قضايا أساسية إنسانية، إذا ما كانوا يرغبون مستقبلا بتقديم فنونهم على منابر مصر المهمة والكبيرة، بأن يعملوا حساباتهم جيّدا، بأنهم قد يخسرون فرصة الظهور والوصول إلى النجومية الأكبر، إذا ما مسّوا يوما صورة النّظام، بمعنى آخر أن الظهور على المنابر المصرية يستدعي ولاء مباشراً للنظام، أو على الأقل الصمت عنه وعن ممارساته السابقة واللاحقة، وهي رسالة تقول للمعنيين إن الفن والأدب، ليسا بمعزل عن السّياسة، وإن موهبتك لوحدها لن تشفع لك بالوقوف على المنابر الفنية المهمة، بل تحتاج إلى رضى النظام، أو على الأقل بأن لا تستفزه فتغضبه. كذلك هنالك ما يجب أن يؤخذ بالحسبان، هو اسم العائلة، معروف أن كثيرين من أبناء عائلة البرغوثي هم من المناضلين، فمنهم شهداء وأسرى وقيادات سياسية وفكرية من جميع الفصائل ومن المستقلّين، وليس مستهجنا على أنظمة تعتمد العقوبات الجماعية، إجراء عقاب تأديبي جماعي، حتى ولو لم يكن للشّخص المعاقَب أي دخل في السّياسة، وهذا ما تفعله مثلا دولة الاحتلال، فقد يُمنع جميع أبناء عائلة معيّنة من الضفة أو من قطاع غزة من دخول منطقة 48 لتطابق اسم العائلة مع اسم عائلة شخص ما مغضوب عليه من قبل سلطات الاحتلال، وقد تُعاقَب البلدة بكل سكانها وعائلاتها، إذا ما قام أحد من سكانها بنشاط ما ضد الاحتلال، فيحرم سكان البلدة بكل عائلاتهم من الدخول للعمل أو للعلاج وغيره، وهذا باعتراف الجنود أنفسهم، وهذه القرارات ممكن أن يتّخذها جندي عادي، ويختمها الضابط المسؤول، من دون أية مراجعة.
هذا ذكرّني بناقدة أدبية فلسطينية من الجليل، أعادوها قبل بضع سنوات من نقطة العبور في رفح المصرية، ومنعت من دخول مصر للمشاركة في ندوة أدبية دعيت إليها في القاهرة، ولم يخفِ مسؤول المعبر عنها، بأن السَّبب هو مقالة لها تمتدح فيها كاتبا عربيا مغضوبا عليه من قبل أذرع النظام! كذلك فقد مُنعت المرحومة الفنانة ريم بنا من دخول مصر مرتين في حقبة السيسي. الخوف من الفن، بل والعداء للفنانين المعارضين قضية مفروغ منها من قبل أي نظام قمعي، فهو يشجع الفنَّ ويدعم الأدب ما دام في خدمته، وفي اللحظة التي ينكر فيها الفنان أو الأديب ولاءه، فعليه أن يتوقع حرمانه من منابر وطيِّبات النظام، وحتى معاقبته ومضايقته بشتى الوسائل التي قد تصل إلى ما هو أخطر من مجرد منع دخوله إلى البلاد.
لماذا ناي البرغوثي؟
بقلم : سهيل كيوان ... 04.08.2022