انتهت الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزّة باتفاق وقف لإطلاق النار بوساطة مصرية ـ قطرية، أعلنته رسميا كل من إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، التي تحمّلت هذه المرّة عبء المواجهة مع الآلة الحربية الإسرائيلية. وجاءت الحملة تكثيفا للعدوان الإجرامي المتواصل على الشعب الفلسطيني بأسره، الذي يأخذ طابع الحصار المستمر منذ أكثر من 15 عاما. وفي ظل «التعطّش» الإسرائيلي إلى إنجازات عسكرية، بعد سلسلة من خيبات الأمل، سارعت القيادات العسكرية والسياسية إلى إعلان «النصر»، على الرغم من أن الصواريخ ظلّت تنطلق من القطاع حتى لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار.
ومع انتهاء المعركة العسكرية، عادت إسرائيل إلى المربّع الأوّل وإلى السؤال نفسه: ما العمل تجاه غزّة وهي لا تريد إعادة احتلالها بسبب الثقل الديموغرافي، وهي تخشى القيام بعملية عسكرية برّية غالية الثمن، وتريد في الوقت نفسه المحافظة على الفصل بين الضفة الغربية وغزّة لإضعاف الفلسطينيين ولتعطيل إمكانية الحديث عن حل سياسي، وعلى الرغم من كل جعجعة إسرائيل، فهي لم تحسم شيئا في هذه المعركة.
وفق معطيات رسمية لمنظمات الأمم المتحدة انتهت الحرب بسقوط 46 شهيدا فلسطينيا بينهم 16 طفلا، وإضافة لذلك أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزّة أن عدد الجرحى بلغ 360 شخصا، منهم 151 طفلا، وقد شوهد بعضهم على شاشات التلفزيون في حالة جسدية ونفسية تقشعر لها الأبدان. وتضررت، جرّاء القصف الإسرائيلي 1761 وحدة سكنية يقطنها 8500 مواطن، اضطر قسم منهم إلى مغادرة بيوتهم التي دُمّرت. سبقت هذا العدوان الإجرامي سلسلة من الاعتداءات الحربية على غزّة راح ضحيتها ما يزيد على 4200 شهيد، ففي عام 2008 ـ 2009 وخلال عدوان «الرصاص المصبوب» بلغ عدد الضحايا 1400 شهيد، وفي عملية «عمود السحاب» عام 2012، وصل عدد الشهداء إلى 177، وفي حرب «الجرف الصامد» الإجرامية سنة 2014 استشهد 2322 شخصا منهم 578 طفلا. كما استشهد عدد كبير من أهالي غزّة خلال اعتداءات متفرّقة في السنوات الأخيرة. والحصيلة أن ما تسميه إسرائيل «إنهاء احتلال» غزّة هو أكثر دموية من الاحتلال بشكله السابق.
لم يكن العدوان الإسرائيلي الأخيرة موجّها ضد حركة الجهاد الإسلامي تحديدا، كما قد يعتقد البعض، ولم يستهدف غزّة وحدها، بل كان ضد الشعب الفلسطيني بأسره وفي كل أماكن وجوده. كان هذا العدوان محطّة جديدة في مسلسل الحرب الدامية، التي استهدفت وتستهدف إخضاع الشعب الفلسطيني، واقتلاع إرادته للنضال ولمواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني بتجليّاته المختلفة والمتشعّبة. وتبقى محاولة تقييم وتحديد تفاصيل الدوافع والأهداف المتعيّنة لقيام إسرائيل بشن عدوانها الوحشي على غزّة منقوصة ومبتورة إن هي حُصرت في المسببات العابرة، ولم تشمل الأسباب «الدائمة» للعنف المتأصّل في مشروع الغزو الصهيوني لفلسطين.
جاء المشروع الصهيوني ليسلب أهل البلاد أرضهم ووطنهم، وهم بطبيعة الحال رفضوا ويرفضون ذلك ودافعوا ويدافعون عن حقّهم في الحياة الكريمة في بلدهم. وكان من المستحيل تنفيذ مشروع السلب والتهجير والتطهير العرقي، من دون اللجوء إلى استعمال العنف والقوّة لكسر شوكة المقاومة التلقائية والمنظمة لأصحاب البلاد، وهذه حالة مستمرة منذ أكثر من مئة عام، ويبدو أنّها سوف تدوم لسنوات طويلة، خاصة في ظل الرفض الإسرائيلي العنيد لمشاريع التسوية والحلول الوسط كافة، التي تقدم بها الفلسطينيون والعرب والأسرة الدولية. ويمكن القول بأن العنف الإجرامي ملازم للمشروع الصهيوني، ومن المستحيل فك الارتباط بينهما، إلا، لا سمح الله، باستسلام كامل للعرب والفلسطينيين.
لماذا العملية؟
كان الدافع المباشر للعملية المسمّاة «طلوع الفجر» – مع أنّها بدأت في ساعات العصر- هو كسر معادلة الربط بين غزّة والضفة الغربية والقدس. فقد جنّ جنون إسرائيل، العام الماضي، جرّاء قيام حركة حماس بإطلاق الصواريخ ردّاً على ما يجري في القدس والأقصى، واعتبرت ذلك إنشاء معادلة ربط خطيرة ومحاولة فلسطينية للخروج والتمرّد على حالة التفتيت وفك الارتباط بين أجزاء الشعب الفلسطيني، وعليه قامت إسرائيل بشن عدوان «حارس الأسوار»، الذي هدف إلى القتل والتدمير وزرع حالة من الترويع والرعب، لكن الوعي الفلسطيني بأن ثمن عدم الالتزام بفك الارتباط سيكون باهظا وفظيعا. وحين هددت حركة الجهاد الإسلامي بالرد على اعتقال بسام السعدي، وجدتها إسرائيل فرصة للانقضاض على الجهاد وأدارت بشكل غير مباشر مفاوضات صورية للتمويه والاستعداد لشن عدوانها على غزّة. وكان الدافع الإسرائيلي المركزي هو منع تثبيت معادلة الربط بين غزّة وما يجري في الضفة الغربية، وتوسّعت الأهداف الإسرائيلية لتشمل أيضا توجيه ضربة إلى حركة الجهاد الإسلامي، وتضييق الخناق على أهل غزّة لزرع الرعب في صفوفهم، ومحاولة إجبارهم على الاكتفاء بالبحث عن لقمة العيش.
تلخيص إسرائيلي
لخّصت إسرائيل بأنها انتصرت في عدوانها على غزّة، واعتبرته ناجحا بعد أن قامت بأثر رجعي بتحديد معايير النجاح. وإذ هيمن خطاب «النصر» في المحافل السياسة والأمنية والمنصّات الإعلامية، فإن علامات الاستفهام التي تناثرت هنا وهناك لم تشوّش مفاعيل النشوة الفعلية والنشوة المصطنعة، التي اجتاحت المجتمع والقيادة في الدولة العبرية. هناك حاجة لتقييم فلسطيني رصين وجدّي لمعركة «وحدة الساحات»، وفيه يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أيضا التقييمات والاستنتاجات الإسرائيلية، التي تلقي ظلالها ومفاعيلها على الحالة الفلسطينية عموما. وهنا وجب تقييم بعض ما قيل وما لم يقل في إسرائيل حول ما يسمى بحملة «طلوع الفجر»:
أوّلا: تبجح القادة والمعلّقون الإسرائيليون بأن العدوان حقّق هدف منع الربط بين القمع والاضطهاد والتهويد في الضفة الغربية والقدس، والرد الفلسطيني المقبل من قطاع غزّة. هذا استنتاج غريب، فالذي حدث فعلا هو العكس تماما، فقد جرت مواجهة عسكرية في أعقاب اعتقال في جنين، ولو نجحت إسرائيل في فك الارتباط، كما تدّعي لما كانت معركة، ولما شمل الإعلان عن وقف إطلاق النار التزاما مصريا بإطلاق سراح معتقلين من الضفة الغربية.
ثانيا، في كل معركة حربية، تجري إسرائيل تجارب على أسلحة وعلى تقنيات عسكرية مختلفة، وتدأب على تمرير النتائج إلى الولايات المتحدة، مضافة إلى مطالب بالمزيد من التسليح المجّاني لتغطية تكلفة استهلاك الذخائر والصواريخ والمعدّات للأسلحة القديمة والجديدة. فبعد حصول إسرائيل، بعد عملية «حارس الأسوار»، على مليار دولار تعويضا عن استهلاك قذائف «القبة الحديدية»، التزم الرئيس الأمريكي جو بايدين، في «إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية»، بتمويل استهلاك ذخائر الدفاع الجوي الإسرائيلي في أي مواجهة عسكرية. وإذ يبلغ ثمن كل قذيفة قبة حديدية ما يقارب 30 ألف دولار، فإن إسرائيل أطلقتها بلا حساب استنادا إلى التزام الولايات المتحدة بدفع أي مبلغ. وفي سبيل رفع قيمة المنظومة المطوّرة «القبة الحديدية» في سوق التمويل الأمريكي، نشر الجيش الإسرائيلي أن نسبة إسقاطها للصواريخ بلغت نسبة 96%، من دون أي تفصيل حول طريقة الحساب سوى الإشارة الى أن قذائف القبّة تطلق فقط عندما يدل مسار الصاروخ أنّه سيصل إلى منطقة مأهولة، ويبدو من طريقة عرض وتسويق النسبة المئوية، أن هناك تلاعبا بالأرقام، بغية الردع وتسهيل البيع.
ثالثا: تحاول إسرائيل تسويق القبّة الحديدية عبر التأكيد على قدراتها والتغاضي عن أن نجاعتها، كما أشار بعض العسكر السابقين، تبقى محدودة في مواجهة إطلاق وابل من مئات وآلاف الصواريخ. ولكن الغريب أن يصدر الجيش الإسرائيلي بيانا خاصا بأنه لم يستعمل سلاح الليزر «الدفاعي» في هذه المعركة، مع التأكيد على أنّه جاهز للاستعمال الميداني. لقد اطلع الإسرائيليون الرئيس بايدين على تقنيات ليزر ممنوعة من النشر، وهي تسعى الى إبقاء مشروع الليزر في عالم الغموض. ولا يصح تصديق بيان النفي الإسرائيلي، الذي تبرعت به إسرائيل، من دون أن يسألها أحد، وقد تكون تلك محاولة لصرف الأنظار عن إمكانية أن تقنية الليزر استعملت لحرف بعض الصواريخ عن مسارها لتسقط داخل أراضي القطاع. ليست هناك دلائل مباشرة على استعمال الليزر، سوى أن إسرائيل عادة ما تكون على أحر من الجمر لإجراء تجارب ميدانية على أسلحة جديدة، وأن الجيش الإسرائيلي نشر بسرعة مشبوهة صور فيديو لصواريخ انحرفت عن مسارها، فإمّا أن تكون هذه الصور معدّة سلفا، أو أنّها تصوير لتدخل إسرائيلي مجهول، قد يكون عبر الليزر.
لقد حظيت إسرائيل في عدوانها على غزّة بما يسمّى «شرعية دولية»، تمثلت في دعم أمريكي وبريطاني وأوكراني وتلعثم أوروبي وتواطؤ عربي. لقد سوّقت أنظمة التبعية العربية تطبيعها، بأنّه يلجم إسرائيل ويجعلها تقيم حسابا لعلاقاتها بالدول العربية حين تفكّر بالاعتداء على الفلسطينيين، وقد تبيّن أن إسرائيل فعلا تقيم حسابا، لكن بالاتجاه المعاكس، فالموقف العربي الرسمي يشجّعها على القصف والبطش والقتل والتدمير ولا حاجة للتدقيق لمشاهدة أيدٍ عربية ملطّخة بدماء غزّية.
عدوان على غزّة والحرب على فلسطين مستمرة
بقلم : د. جمال زحالقة ... 11.08.2022