احتفت إسرائيل يوم الاثنين الماضي بتعيين اللفتنانت جنرال هرتسي هليفي رئيسا جديدا لأركان الجيش الإسرائيلي خلفا لللفتنانت جنرال أفيف كوخافي، الذي أحيل إلى التقاعد بعد أربع سنوات في قيادة الجيش وبعد 40 عاما من الخدمة العسكرية. وتوالت طقوس التعيين طيلة يوم كامل، وانتهت رسميا في مقر القيادة العامة للجيش الإسرائيلي في موقع «الكرياة» وسط مدينة تل أبيب. وصدرت خلال مراسم التعيين وعلى هامشها تصريحات كثيرة من جنرالات وسياسيين مفادها أن المرحلة المقبلة مثقلة بالتحديات الأمنية والعسكرية، وأن كل الجبهات مرشّحة للاشتعال في السنوات المقبلة وبعضها قد يلتهب خلال السنة الحالية، إضافة لذلك رشح قلق حقيقي من تداعيات الانقسام الداخلي في إسرائيل على الجيش، وعلى قدرته على الصمود أمام تدخلّات وضغوط سياسية لكسب صلاحيات، كانت طيلة الوقت حكرا على الجيش وقيادته.
كوخاف: الجنرال التفكيكي
يجمع المراقبون والمحللون على أن الجنرال أفيف كوخافي، الذي خلع هذا الأسبوع بدلته العسكرية، سيدخل المعترك السياسي بعد نفاد فترة «التبريد»، بين انتهاء الخدمة العسكرية ودخول الحياة السياسية. ورافق الإعلام الإسرائيلي كوخافي بوابل من التمجيد والتلميع، بالإشارة إلى أنّه درس الفلسفة، ويتقن التفلسف ويمارس فن الرسم ويعشق الموسيقى، وبالتأكيد على أنّه قائد عسكري متميّز يعرف كيف يضع الاستراتيجيات ويحدد الأهداف ويترجم القول إلى عمل. من الممكن أن يكون الفرد عاشقا للفن ومتقنا للقتل في آن واحد. وفي الحقيقة يقع مبدأ «الفتك» في لب استراتيجية كوخافي العسكرية، وقد ترجم ذلك إلى خطط عملية في إطار خطّة عسكرية خمسية، وشرح موقفه قائلا: «في نهاية كل مرحلة قتالية، يجب فحص حجم الخسائر المادية والبشرية التي لحقت بالعدو، وليس فقط مساحة الأرض التي جرى احتلالها والسيطرة عليها»، وقد دأب على قياس نجاح العمليات العسكرية بعدد القتلى من «العدو». وقد طغى على تفكيره العسكري هدف القتل والإبادة قبل أي هدف آخر، وقد ظهر ذلك في كل المعارك العسكرية التي قادها وشارك في ارتكاب جرائمها. لقد كسب كوخافي مجده القتالي، بالمفهوم الإسرائيلي للمجد، في خضم عملية احتلال مخيّم بلاطة في نابلس في إطار حملة «السور الواقي» عام 2002. وقامت الوحدة العسكرية التي قادها باقتحام المخيم من خلال الانتقال من بيت إلى بيت، عبر تدمير الحيطان والسقوف والأرضيات وفتح ثغرات واسعة لعبور الجنود. وقد رفض كوخافي ترك مجال للمسلحين الفلسطينيين للخروج من المخيّم، كما رفض أسرهم وأمر جنوده بالقتل وبالمزيد من القتل. وفي مقابلة أجراها معه المعماري الإسرائيلي إيال فايتسمان، استعاد كوخافي ثقافته الفلسفية، معلّلا طريقته في احتلال المخيم بأنها تنطلق من تأويل مخالف للحيز العمراني، وبأن نظرته لمفاهيم البيوت والحيطان والسقوف والمصاطب والأزقة والشوارع مخالفة لإدراك «العدو»، الذي يرى أن المشي يكون عبر الطريق، وأن الحيطان ليست معدّة للعبور، وقال بأنه يتبنّى مبادئ الهندسة المقلوبة والتفكيكية العمرانية. وأوضح كوخافي تأويله المخالف للحيّز الفلسطيني في عملية «حارس الأسوار» عام 2021، في تعامله مع الأنفاق ومع بنايات الأبراج في غزّة. وبدلا من أن تكون الأنفاق ملاذا للمقاتلين، اعتبرها – كما قال- موقعا لتجميعهم وقصفهم وإبادتهم، وبدلا من أن تكون العمارات مكانا لسكن الناس ولعملهم، أصبحت في تأويل كوخافي للعمارة هدفا عسكريا. ونجد أن كوخافي يستثمر التفكيكية لتسويغ ولتجميل الفتك والتدمير، ويذهب بها إلى أقصى حد من اللاإنسانية. ونجد أيضا أن التفكيكية والبنيوية والوضعية والوجودية والماركسية واللاهوت وكل شيء في الدنيا خاضع، أو قابل للخضوع لإشباع حاجات ورغبات وأهواء المستوطن الصهيوني. لقد ارتكب كوخافي جرائم مثل غيره، وربما أكثر، لكنّه حاول تغليفها بطابع فلسفي فنّي، لدرجة أن الجيش في عهده نشر شرائط فيديو عن تدمير عمارات في غزة على أنغام موسيقى جميلة!
هرتسي هليفي
رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، الجنرال هرتسي هليفي هو أول قائد عام للجيش الإسرائيلي يولد بعد حرب حزيران/يونيو 1967، ويبلغ عمره 55 عاما. وقد ولد لسلالة عائلية متدينة، وأطلق عليه اسم هرتسي وهو اسم الدلع لهرتسل، نسبة لعمّه الذي قتل في معركة احتلال القدس الشرقية عام حرب 67. ويسكن حاليا في مستوطنة «كفار هأورنيم»، التي يمر عبرها الخط الأخضر والواقعة بين قريتي بلعين ونعلين في الضفة الغربية. وقد تولّى هليفي منذ تجنّده عام 1985، مناصب قيادية عسكرية منها قيادة وحدة «كوماندو النخبة» ورئاسة شعبة المخابرات العسكرية، وقيادة المنطقة الجنوبية، وكان حتى الأسبوع الحالي نائبا لرئيس الأركان. هليفي، مثل كوخافي، درس الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، وحصل على الماجستير في الإدارة في الولايات المتحدة. وخصّته صحيفة «نيويورك تايمز» بتقرير تمجيد مفصّل عام 2013، ووصفته بالجنرال الفيلسوف، لأنّه قال بأنّه يتبع خطوات سقراط وأفلاطون وموسى بن ميمون كبوصلة لقراراته «المتوازنة»، ولمّحت الصحيفة إلى أنه سيصبح قائدا للجيش الإسرائيلي، ما يمكن أن يكون إشارة إلى رضى أمريكي عنه وعن تعيينه. لقد جرى تعيين هليفي في أواخر أيام الحكومة الانتقالية برئاسة لبيد. وتعرّض قرار وزير الأمن الإسرائيلي الجنرال المتقاعد بيني غانتس، بتعيينه رئيسا للأركان لانتقادات شديدة من اليمين، الذي اعتبرها محاولة لفرض الأمر الواقع على الحكومة الجديدة. وقد رفض نتنياهو في حينه المشاركة في المداولات حول التعيين، بادعاء أنه يجب تأجيله إلى ما بعد الانتخابات. وفي ظل علامات الاستفهام غير المسبوقة على تعيين قائد الجيش الإسرائيلي، فمن المتوقّع أن يسعى هليفي إلى استرضاء اليمين للحصول على شرعية شاملة، وهذا قد يعني سياسات أكثر تشدّدا حيال الضفة الغربية وغزّة. أول ما قام بها هليفي هو زيارة لقيادة المنطقة الوسطى، التي يسودها توتّر بسبب تصاعد المواجهات مع المقاومة في الضفة الغربية من جهة التي تمر بحالة من الارتباك ومن الريبة بسبب قرارات نقل جزء من صلاحياتها إلى بن غفير وسموتريتش، الوزيرين اللذين يمثلان التيار الديني الفاشي. وذهب المحللون الإسرائيليون إلى أن الزيارة جاءت لطمأنة الضبّاط بأن الأمور تحت السيطرة، وبأن الجيش قادر على منع انفجار الأوضاع في الضفة، وأن بموسوعه تفادي الدخول في صدام مع المستوى السياسي.
بين السياسي والعسكري
منصب رئيس أركان الجيش هو أعلى المناصب العسكرية في إسرائيل، وله صلاحيات واسعة في إدارة الجيش والمعارك القتالية، وهو حلقة الوصل بين المستوى السياسي والمستوى العسكري. ولو أن القانون الإسرائيلي لا يحدد تفاصيل الصلاحيات وطرق اتخاذ القرارات في مثلث رأس القرار العسكري المكوّن من رئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس الأركان، إلّا أن هناك أنظمة داخلية وتقاليد متوارثة تنظّم العلاقة في هذا المثلث. من حيث المبدأ يخضع الجيش لقرارات الحكومة، لكن من الصعب جدّا اتخاذ قرار مهم في الشأن العسكري، يعارضه رئيس الأركان. وهناك أمثلة كثيرة على الامتناع عن القيام بعمليات عسكرية بسبب معارضة القيادة العسكرية، ومنها معارضة رئيسي الأركان السابقين غانتس وأشكنازي على القيام بهجوم عسكري على إيران، اقترحه بنيامين نتنياهو، كرئيس للوزراء، وإيهود براك كوزير للأمن قبل حوالي عشر سنوات، كما أفشل الجيش محاولة نتنياهو شن حملة عسكرية على غزّة عشية انتخابات خريف 2019.
يستطيع رئيس الأركان أيضا، وبسهولة نسبية، تمرير قرارات في المجلس الأمني المصغّر، عبر تكتيك المقترحات الثلاثة: اقتراح متطرّف جدّا يسبب الكثير من المشاكل، واقتراح متساهل للغاية يظهر الضعف والاقتراح الفعلي الذي يريده الجيش والذي يسوّق في جلسة اتخاذ القرار على أنّه الأكثر عقلانية ومعقولية. وفي الواقع تطرح الاقتراحات المختلفة بتنسيق مسبق مع وزير الأمن ورئيس الوزراء، ويقرّها مجلس الوزراء المصغّر بلا صعوبة. ولكن وفي ظل الحكومة الجديدة الأكثر تطرّفا فإن الضغوط على الجيش للقيام بمبادرات عدوانية ستزداد كثيرا.
بالذات في ظل الانقسام السياسي الحاد الذي تشهده إسرائيل، يبدو الجيش كأهم معقل للإجماع الصهيوني، ويحظى بدعم اليسار واليمين والوسط. وعليه سيحذر الساسة من إقحامه في معمعان الصراعات الحزبية والسياسية وسيلقى هرتسي هليفي مساندة كاملة في الرأي العام الإسرائيلي لمواصلة ارتكاب جرائم الحرب مثل سابقيه. الجديد، ربّما، أن النفور العالمي من إسرائيل ومن قياداتها ومن جرائمها ازداد كثيرا بعد تشكيل الحكومة الجديدة، بقي أن يستثمر هذا الأمر فلسطينيا وعربيا لمحاصرة ولجم العدوان الإسرائيلي.
هليفي يخلف كوخافي في قيادة جيش الجرائم الإسرائيلي!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 19.01.2023