منذ فجر البشرية الأول، حاول الإنسان أن يثبّت ويرسَّخ بقاءه أطول فترة ممكنة في الحياة، فهرب من المخاطر وواجهها ودافع عن نفسه، ووفّر لنفسه المسكن الآمن والأمن الغذائي، لفترات تتعدى الأيام القليلة من خلال استخدامه للنار في حفظ اللحوم، ثم الزِّراعة، وخلال هذا حاول تفسير الظواهر الطبيعية من حوله.
الحاجة والعمل وإرادة المعرفة هي المفتاح لتطوُّر الفكر الإنساني، ومرّت مئات آلاف من السنين إلى أن اهتدى الكهنة أو الفلاسفة إلى تفسيرات لحدوث الزلزال، فقد توصلوا إلى أنه ناتج عن انتقال الأرض من قرن الثور الذي يحملها إلى قرنه الآخر.
وفي الهند اعتقدوا أن الأرض محمولة على رؤوس سبع حيّات، كلما انتقلت من رأس إلى آخر حدثت الهزّة، وآمن قدماء المصريين بأن مارداً جبَّاراً يحمل الأرض على كتفيه، تهتزُّ كلما التفت إلى جهة ما، وفي منغوليا استبدلوا الثور بضفدع جبّار.
لم يكن الوصول إلى الخرافات المغرقة في سذاجتها سهلاً، ولا بدَّ أن أول من أوجدها كان سعيداً وفرحاً لأنه «كشف السِّر» ووجد مؤمنين بما أبدعه.
مرّت عصور أخرى وقصص فيها الكثير من الإبداع القصصي والخيال المجنّح في تفسير الظواهر الطبيعية.
أشهرها الميثولوجيات الإغريقية التي جعلت لكل ظاهرة إلهاً، وبنت له قصّة، وزوجت الآلهة وجعلت بينها حروباً وحبّاً وصراعات، وأثّرت التفسيرات بعضها ببعض، وانتقلت من جيل إلى جيل ومن شعب إلى آخر، من خلال الغزو أو العلاقات التجارية، وحتى من خلال التبادل الثقافي وغيره.
اعتقد الإغريق أن مسبب الزلازل هو الإله بوسيدون، ربُّ المياه والعواصف والزلازل، وذكَر هيرودوت بحسب المصادر، أن الإغريق اقتبسوا هذا الإله من الليبيين، إذ لم يعرف أحدٌ بوسيدون من قبلهم.
أما اليابانيون فقد آمنوا بأنّ سمكة قرموط أسطورية عظيمة، يطلقون عليها اسم نامازو، هي التي تسبب الزلزال بحركتها القويّة في أعماق البحار، المثير أن كثيراً من اليابانيين ما زلوا يؤمنون بهذه الخرافة، رغم التقدُّم العلمي في هذا البلد، وتشكّل الزلازل في اليابان 10% من مجموع الزلازل على الكرة الأرضية.
من الطبيعي أن تثير الكوارث الهائلة أسئلة تخصُّ مختلف العقائد، خصوصاً عندما يكون ضحاياها بأعداد كبيرة، والخسائر فادحة.
هنالك من يؤمنون بالقضاء والقدر، وأن هذا من عالم الغيب، ويعتقدون أن الزلزال عقوبة إلهية بسبب الفساد الكثير في الأرض، وأنه تنبيه إلخ…، رغم كون معظم الضحايا من بسطاء الناس وأشدهم فقراً ومن المغلوبين على أمرهم.
وهناك من يفسّرها تفسيراً علمياً، من خلال أبحاث مستمرة لمعرفة الأسباب بالضبط، محورها تحرّك طبقة قشرة الأرض، وهنالك جهود علمية تحاول التنبؤ بموعدٍ تقريبي لحدوثها.
هنالك من يجمعون بين التفسيرين، فيؤمنون بالغيب والقضاء والقدر، وفي الوقت ذاته يؤمنون بالتفسيرات العلمية.
هنالك عدة عوامل تؤدّي لارتفاع عدد الضحايا، أوّلاً قوة الزلزال نفسه، وثانياً نوعية المباني هل هي قديمة أم حديثة، وهل طبِّقت معايير صارمة في بنائها، وهل أُخذ بعين الاعتبار إمكانية حدوث زلازل، كذلك الازدحام السُّكاني في منطقة الزلزال، وتوقيت وقوعه، في ساعات النوم أم العمل والخروج من البيوت، وهنالك عامل الاستعداد من قبل السُّلطة المركزية للتعامل مع الكوارث، من طواقم إنقاذ وخبرة وسرعة في التعامل، وهنالك الوعي الشخصي والذاتي لتصرُّف الأفراد خلال وقوع الكوارث، ومدى خبرة الناس عموماً وليس فقط الطواقم المختصة في عمليات الإنقاذ، إضافة إلى هذا سرعة وصول الدعم الدولي للمنطقة المنكوبة.
يمكن الحد من الخسائر مستقبلاً من خلال هندسة الأبنية الحديثة بطرق تضمن مرونتها وصمودها أمام الزلازل، وهو ما تفلعه اليابان مثلًا، وبتدعيم الأبنية القديمة أو هدمها وتجديدها، فبعضها آيل إلى السقوط أو نسمع عن سقوطه حتى بدون زلزال ومن تلقاء نفسه، كما حدث في مصر مرّات عدَّة.
كذلك يُفترض أن يتلقى كل شاب وشابة دورة في الإسعاف الأوّلي والإنقاذ، مثلما يتعلّم الحساب ولغة بلده، وجعلها إلزامية قبل الانتهاء من المرحلة الثانوية مثلاً، فقد ينقذ روحاً أو ينقذ نفسه بقليل جداً من المعرفة في طرق الإسعاف.
واضح أن أعداد الضحايا في الكوارث الطبيعية يكون أقل في المجتمعات التي تهتم بهذه الجوانب.
هذا الكلام ينطبق على الدول التي تعيش من دون حروب.
أما في الحالة السورية، فتضاف العمليات العسكرية خلال سنوات الحرب الأهلية التي سبقت الزلزال، إلى عوامل تصدّع وإضعاف أبنية كثيرة يسكنها محليون ونازحون رغم خطورتها، وهناك أربعة ملايين من السوريين في هذه المناطق بحاجة إلى الدعم الإنساني قبل الزلزال.
هذا وفي الوقت الذي تتقدم عشرات الدول بطلبات تقديم مساعدة للمنكوبين في تركيا وشمال سوريا، يعلن النظام السوري رفضه إتاحة وصول هذه المساعدات إلا عن طريقه، أي أن يستلمها ويقوم هو بتوزيعها للمناطق المنكوبة، ودون ذلك فهو لن يسمح لقوافل الإغاثة بالمرور من الأراضي التي يسيطر عليها، محاولاً بهذا استغلال الكارثة الإنسانية سياسياً لصالحه، دون التفات إلى أهمية كل ساعة قد تكون حاسمة في إنقاذ أرواح أناس جريمتهم أنهم معارضون للنظام أو أنهم يعيشون في مناطق تسيطر عليها المعارضة.
في الوقت ذاته، تُظهر الكوارث قوَّة الإنسان وقدرته على تجاوز المحن واستئناف حياته واستمرارها، وهذا ما يجعل ولادة طفل خلال وقوع الكارثة رمزاً يتسابق الصحافيون لإبرازه، وكأن هذا الوليد يعوّض خسائر آلاف الأرواح، ويعلن أنّ الرّغبة في الحياة أقوى من الاستسلام للموت والعدم، كذلك فإنّه يمنح فِرَق الإنقاذ شعوراً بجدوى جهودهم، ولهذا ترى عشرات ممن يعملون في الإنقاذ متحلِّقين حول شخص واحد تم إنقاذه.
كذلك فإن لقطة أظهرت حرص طفلة سورية على رأس شقيقها لتحميه بذراعها وهما عالقان تحت أطنان الإسمنت المسلّح والحجارة، تضيء مساحة من العتمة والألم، كأنها صفعة في وجه هذا الدمار الهائل والإهمال والاستهتار في حياة الإنسان، إنها صفعة في وجه أعداء الحياة والإنسانية الذين لم يستطيعوا سلب هذه الطفلة حنانها وحرصها على رأس شقيقها.
الإنسانية تحت الأنقاض!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.02.2023