على المدى القريب وحتى المتوسط لا تبدو هناك بارقة أمل للنهوض بالدول العربية الفاشلة التي تتزايد أعدادها عاماً بعد عام. وكي لا نكذب على بعض ونوزع بشائر كاذبة على الناس، يجب أن نعترف أن المستقبل في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وتونس والسودان والجزائر ومصر وغيرها لا يبشر بخير، فكل المؤشرات لا تبعث على التفاؤل مطلقاً، ليس لأن الشعوب لا تعرف كيف تنهض أو أن بلداننا عاقرة، لا أبداً، بل لأن هناك على ما يبدو قراراً دولياً أو لنقل فرماناً من سادة العالم الكبار بأن يبقى ما يسمى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ينتقل من سيئ إلى أسوأ حتى يكتمل مشروع ما مُعد للمنطقة منذ عقود وعقود.
وهذا طبعاً ليس من باب التفكير بنظرية المؤامرة، بل لأن الوقائع على الأرض تفقأ العيون وتؤكد أن إيصال المنطقة إلى ما وصلت إليه لم يأت عبثاً، أو مجرد نتيجة لسياسات الأنظمة الحاكمة فقط، فكما نعلم جيداً أن معظم الأنظمة في المنطقة لا تملك قرارها الوطني، بل تنفذ ما يُملى عليها من الخارج، لا بل إن في بلد كسوريا التي يتشدق فيها النظام ليل نهار بالسيادة الوطنية يأتي تعيين بعض الوزراء وكبار المسؤولين وحتى الضباط الكبار من خارج البلاد. كيف لا وأن الحاكم نفسه وطبيعة النظام مفروضة من الخارج لأغراض جيوسياسية منذ عقود وعقود ولا علاقة للسوريين بها لا من بعيد ولا من قريب. وهذا ينسحب على العديد من البلدان العربية، حيث تخدم الأنظمة أولاً وأخيراً أجندات خارجية بحكم أن دوائرها الانتخابية ليست داخل بلادنا أصلاً بل خارجها. لهذا لا يوجد لدينا انتخابات حرة كما حصل في جارتنا تركيا، ناهيك عن أن سادة العالم (الديمقراطيين) بين قوسين طبعاً يغضون الطرف ليس فقط عن انتخاباتنا واستفتاءاتنا الكوميدية التي يفوز فيها سيادته بتسعة وتسعين بالمائة من أصوات الشعب المقهور والمنكوب، بل تتجاهل أيضاً الفظائع والجرائم التي يقترفها الجنرالات بحق الشعوب سواء كانت قتلاً وتنكيلاً وتعذيباً وتجويعاً أو تهجيراً، بحيث بات السواد الأعظم من السوريين والسودانيين واللبنانيين والعراقيين والمصريين والجزائريين والتونسيين واليمنيين يركبون البحار بحثاً عن ملجأ ولقمة عيش بسيطة في أي مكان بعيد عن أوطانهم آلاف الأميال، حتى لو ذهبوا طعاماً للأسماك والحيتان في عرض البحار والمحيطات. لذلك لا يحدونا أي أمل بأي تغيير بعدما شاهدنا ما حدث لحركات التغيير التي جاءت تحت يافطة ما يسمى الربيع العربي.
البعض طبعاً يلقي باللائمة على الأنظمة الحاكمة والطغاة الجاثمين على صدور الشعوب وأنهم السبب الرئيسي الذي يمنع النهوض والتغيير في المنطقة. وهذا طبعاً تفكير ساذج. لا شك أننا ابتلينا بأسوأ أنظمة وحكام ولا شك أننا نحتاج إلى مانديلا عربي يضمد الجروح الغائرة وينهض بالبلاد والعباد كما فعلها الزعيم الأفريقي العظيم بعد عقود من الصراع العرقي والمذابح والتفرقة العنصرية والإفقار والتنكيل بشعب جنوب أفريقيا على أيدي نظام عنصري أقلوي.
ولا شك أننا نحلم بكاغامي عربي يفعل ما فعله الرئيس الرواندي في بلد تعرض لواحدة من أبشع الحروب الأهلية في التاريخ الحديث، ثم نهض من تحت الركام ليصبح مضرباً للمثل في المصالحة الوطنية والتقدم الإنساني والإداري والمدني في العالم الثالث. لكن هل حلمنا في محله، أم إنها أضغاث أحلام؟ هل يمكن أن يخرج لنا كاغامي عربي في تونس مثلاً على ضوء ما يفعله قيس سعيد وزمرته بالبلاد؟ بالطبع لا. لاحظوا أن ما يسمى بالمجتمع الدولي يغض الطرف تماماً عما يفعله سعيد بتونس وبشار بسوريا. ولا يختلف الوضع بالنسبة لبقية الدول العربية الفاشلة التي تعيث فيها الأنظمة والعصابات الحاكمة خراباً ودماراً على مرأى ومسمع العالم دون أن نسمع عن أي مشروع دولي لمساعدة تلك البلاد المنكوبة. كم هم ساذجون وحالمون الذين يحلمون بمانديلا عربي يعيد توحيد الصفوف ولم الشمل والنهوض بالبلاد من جديد. لكن هذا لا يعني أنه ليس لدينا عقول وشخصيات يمكن أن تفعل ما فعله مانديلا في جنوب أفريقيا وكاغامي في رواندا، لا أبداً، بل هناك آلاف العقول والقيادات العربية الوطنية التي يمكن أن تصحح الأوضاع الكارثية في بلادنا وتضعها على طريق التقدم والنهوض والوحدة الوطنية. لكن هل مسموح لتلك القيادات والعقول أن تظهر وتستلم زمام المبادرة، أم إنها ستواجه ألف عقبة وعقبة داخلية وخارجية تمنع أي مشروع نهضوي في بلادنا؟ لنكن صريحين ليس مسموحاً لنا حتى الآن أن ننهض بدليل أن القيادات المجرمة التي تسببت بالانتفاضات الشعبية قبل أكثر من عقد من الزمن بسبب سياساتها التخريبية يُعاد تأهيلها اليوم بعد أن عاثت خراباً ودماراً وإفساداً وتنكيلاً في بلادنا، وكأن كل ما فعلته بالشعوب والأوطان على مدى عقود أصبح شيئاً من الماضي، وكأن المطلوب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتذكير الشعوب بأن ما حصل لها من كوارث هو عقاب لها على المطالبة بالتغيير والنهوض. لا تقل لي إن الأنظمة العربية هي من أعادت تأهيل النظام السوري بعد كل ما فعله بالسوريين، لا أبداً، فلو لم يكن هناك ضوء أخضر أو على الأقل أصفر من ضباع العالم، لما عاد بشار الأسد ليمشي على السجاد الأحمر في العواصم العربية وغيرها بعد كل ما فعله بسوريا.
كيف نتوقع الإصلاح والنهوض من القيادات والأنظمة التي أوصلتنا إلى هنا أصلاً؟ هل يعقل أن الأنظمة التي فشلت في إدارة أوطانها عندما كان الوضع فيها أفضل من اليوم بمائة مرة أن تنهض الآن ببلاد وشعوب منكوبة ومسحوقة وصار مواطنوها يحسدون الكلاب على عيشتهم، ولم يعودوا يحلمون حتى بمستوى المعيشة في أكثر البلاد الأفريقية بوساً وفاقهاً وفقراً؟
لا نحتاج إلى كثير من التفكير حتى نفهم أن المطلوب اليوم هو إعادة تسليط الأنظمة والطغاة القدامى أو نسخ جديدة منهم على رقاب الشعوب كي يستنسخوا الكوارث والفواجع والأوضاع القديمة ويستمروا بها حتى تنتهي المهمات والمشاريع المناطة بهم من أسيادهم ومشغليهم، فحتى ذلك الحين نشعر بحزن وأسى عميق ونحن نقول للحالمين بالتغيير: إنسوا!
هذا هو القادم مع كل أسف!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 10.06.2023