التفتُّ إلى زوجتي وهي منهمكة في كيِّ الملابس وسألتها: كم يستغرقك من الوقت لكي ملابس لأربعة أنفار؟
حسَبَتها، وقالت أحتاج تقريبًا إلى ثلاث ساعات في الأسبوع!
حسبتُ على جهاز الهاتف وذهلت: هل تعلمين أنك تقضين حوالي عامًا ونصف عام من عمرك في كيّ الملابس، وحوالي ثلاث سنوات من الفترة التي تكونين فيها مستيقظة، هذا في عمر افتراضي لسبعين عامًا؟
-حتى ولو كانت خمسة أعوام، فهذه ضرورة!
رحت أفكر لنفسي، إضافة لهدر الوقت، كم من الكهرباء تستهلك مكواة تعمل عامًا ونصفاً بلا توقف؟ لا شك أنَّه مبلغ كبير.
ولكن هل عاش عظماء التاريخ وفلاسفته وأبطاله وعشّاقه وفنانوه وأجدادنا بملابس مكويّة! لماذا أصبحنا حساسين إلى هذه الدّرجة لانثناءةٍ في قميص أو سروال.
إن مجرّد وجود انثناءات على ظهر القميص أو في منطقة الكتف أو الصدر، أو على مقدمة السروال تلفت النظر إليها كخلل في منظومة ما، خصوصًا في المناسبات الاجتماعية، التي يفترض أن تظهر فيها أنيقًا في الحد الأدنى من المعايير المتعارف عليها.
الزّوجة تعتقد أنها تتحمّل مسؤولية، وأن هذه الثنيات في القميص تُفسَّر عند الناس كتقصير وإهمال منها بحق زوجها، الذي عادة لا يتحمّل مسؤولية غسيل الملابس وكيّها، عداك عن تنظيف البيت، وحتى ترتيب فراشه.
أتساءل، ما المشكلة في قميص فيه بعض انثناءات!
أحلم في يوم يعلن فيه مصممو الموضة عن الملابس المتثنية صرعةً جديدة.
كما حدث للسَّراويل الممزّقة التي أصبحت موضة رغم أنف الشانئين، ويتعايش الجميع معها بصورة طبيعية وحتى بنظرة جمالية، حيثُ إن الفتحات مخطَّطٌ لها بدقَّة، ولكنَّها تتحوَّل إلى القبح، عندما يبادر بعضهن إلى زيادة المساحة المكشوفة.
القميص «المجعلك» لم يحظ بهذه المكانة بعد، ولم يدخل خط الموضة، وهذا ما زال بعيدًا.
ملاحظة- في اللغة العربية الفصيحة لا يوجد مصدر جَعلكة أو تَجْعلُك، ولكن يوجد العَلْك، ومنها عَلْك الدّابة للجامها، التي قد تكون مصدر «جَعْلك وتجَعْلك» العامية، ربما هي نحتٌ من كلمتي (جَعَل) و(لاك).
هل بإمكاننا أن نجعل من القمصان المتثنِّية (المجعلكة) صرعة ونرتاح من الكيّ، فنوفّر الوقت الثمين والكهرباء، وخصوصًا في البلدان التي تعاني من انقطاع التيار، أو تلك المتوفرَّة فيها ولكن بثمن مُرتفع!
ليس بهذه البساطة، لأنّنا لسنا بهذه القوة، ولن يطيعنا أحد في هذا.
كي تصبح أي صرعة معترفًا بها، يجب أن تمرَّ عبر العواصمِ والأممِ القوية، الضعفاء لا يصنعون موضة، وعليهم فقط أن يتلقوها.
هنالك فرق بين اللباس التقليدي للبلد، كاللباس اليمني مثلاً، وبين الموضة العابرة للحدود؛ مثلاً يمكن للفتيات العربيات في معظم مناطق فلسطين 48 وفي رام الله وفي بيروت أن يرتدين الجينز الممزَّق، لأنه بات موضة، ولكن لا يمكن لرجل في أي مكان في فلسطين أن يرتدي تنورة اسكتنلندية، ومن يفعل سوف يُتّهم بالشذوذ أو الجنون، لن تصبح التنورة للرجال موضة إلا إذا قرَّر صناع القرار ذلك، وبدأوا في تسويقها في أوروبا، ومن ثم إلى العالم، إلا أنهم من الذكاء بحيث لا يخوضون في تسويق موضة ما إلا إذا اطمأنوا بأن لها جمهورها الواسع وسوقها، فهم يأخذون بعين الاعتبار أيضًا عادات وتقاليد الشعوب والأمم التي تحول دون تسويق بضاعة ما.
ارتدى الفلسطينيون قبل نكبتهم القمباز والشروال والكوفية والعقال.
تراجع هذا اللباس كثيرًا بعد النكبة، خصوصًا في المدن، وبقي في القرى والأطراف التي لا يضطر سكّانها إلى السَّفر للعمل بصورة يومية في المدن اليهودية، أما من يجرؤ على ارتدائها في المدن اليهودية فيُنظر إليه بعين الريبة والشَّك، وسيتعرض لكثير من الملاحظات المستفزة والمهينة. أذكر أحد شعرائنا المحليين، المرحوم منيب مخّول، كان يرتدي اللباس التقليدي الفلسطيني ولا يستبدله حتى في تنقلاته في المدن اليهودية، وصادف مرَّة أن كنت في سيارة أجرة، توقف السائق على ممر مشاة، وحينئذ مر الشاعر منيب مخول، فمال عليّ رجل يهودي جلس إلى جانبي، ويبدو أنّه لم يعرف أنّني عربي، وهمس لي: هذا مخربٌ! كيف يسمحون له بالتجول هكذا؟
همست له: هذا الرجل أعرفه جيّدًا، وهو شاعر معروف من بلدة البقيعة! فصمت الرجل ولم يضف شيئًا بعدما اكتشف خطأه في تصنيفي القومي.
ما أسهل التحريض، لو كان الذي تلقى هذه الهمسة شابًا يهوديًا لأقر بهذا ووافق بأن منيب المُسالم جدًا مخرِّبٌ لمجرد أنه ارتدى زي شعبه التقليدي.
إلا أن في ملاحظة الرجل روح، وهي كون الرجل العربي تمسك بلباسه التقليدي وضعه في خانة «مُخرّب».
هناك من ما زالوا يرتدون الزي التقليدي الفلسطيني ولكنَّهم قلة، وفي المناطق النائية فقط.
لقد نهب الإسرائيليون كل التراث الفلسطيني وختموه بختمهم؛ في الطعام مثلاً، وكذلك في صورة البناء والأقواس والباحة وسط المنزل، خصوصًا في البيوت الخاصة (الفيلات) في المستوطنات في الجليل مثلاً، ترى في الحديقة التّين والصبّار والنباتات الطبية والزعتر الفارسي والبردقوش والميرمية والنعناع والزيتونة وغيرها، وترى للزينة حجر رحى وجاروشة الحبوب ولوح درس الحبوب وغيرها، فهم بحاجة ماسة لتوثيق علاقتهم في المكان وتاريخه وتراثه في شتى المجالات، فهل سينتبه الإسرائيليون يومًا إلى القمباز لجعله موضة، وحينئذ سنتمكن نحن العرب أيضًا من ارتدائه بلا قلق؟
مرت سنوات ارتدت فيها نساؤهم الشروال واللباس النسائي الفلسطيني، ولكنها صرعة مضت ولم تستمر طويلًا.
لا شيء مستبعد، ولكن اقتران القمباز بالكوفية والعقال على الرأس يجعل الأمر أكثر صعوبة، لأنَّ الكوفية ليست محصورة في الفلسطينيين، فهي منتشرة في بلاد العرب ولا يستطيعون الزَّعم بأنها تراث إسرائيلي، ثم إن القمباز ليس عمليًا ويحدُّ من حرية الحركة.
في نهاية الأمر، الأمم القوية تفرض الموضة على كثير من الشعوب ماذا وكيف ترتدي الملابس، بالضبط كما في مختلف الصناعات الأخرى مثل السَّيارات والهواتف وأجهزة الكمبيوتر ونجوم السينما وكرة القدم.
على هذا القياس ممكن أن يُبدعوا الجينز الإسلامي مثلما أبدعوا لباس السِّباحة البوركيني، أي أننا قد نرى الجينز الممزّق، ولكن في الوقت ذاته غير كاشف للحم المرأة.
أجمل المشاهد في مونديال قطر هو رؤية الأجانب يعتمرون الكوفيات في تقليد للعرب، طبعًا كانت هذه حالة مؤقتة، ولكن تخيَّلوا أن تكون ذات استمرارية؟
الشعوب والأمم الحُرّة تختار أذواقها ولا تنجرف وراء صرعات وأذواق وعادات وتقاليد الآخرين، والأمم الضعيفة تبقى مقلّدة ترتدي وتأكل وتشرب ما يعدُّه وما يصنعه لها الآخرون.
«الموضة» يصنعها الأقوياء…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 15.06.2023