ليس هناك أدنى شك أن غالبية شعوب العالم، حتى في البلدان التي تدعم إسرائيل، تناصر الحق الفلسطيني، وتقف بقلوبها مع غزة، وقد ظهر ذلك جلياً في المظاهرات المليونية في قلب العواصم الأوروبية التي تتسابق على تأييد إسرائيل بكل الوسائل. وحتى داخل أمريكا نفسها شاهدنا كيف تصدى البعض للمسؤولين الأمريكيين وهم يعبرون عن دعمهم لما تفعله إسرائيل في غزة، وعندما تشاهد أن أكبر وأقوى المظاهرات المؤيدة لفلسطين كانت في لندن ونيويورك، لن يعود لديك أدنى شك أن البوصلة الشعبية في العالم أجمع تتجه في الاتجاه الصحيح في معظم الأوقات رغم جبروت الإعلام الرهيب الذي يعمل منذ عقود وعقود على غسل أدمغة الشعوب وتصوير الأبيض أسود والأسود أبيض. لكن ما محل الرأي العام الشعبي في الشرق وحتى الغرب من الإعراب في قضية فلسطين أو غيرها من القضايا؟
في السياسة عموماً، وفي السياسة الدولية خصوصاً، المصالح هي المحرك الأول والأخير للأنظمة، ولا مكان للعواطف ولا لصرخات الشعوب حتى في الغرب ذاته، فكلنا يعلم أن أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من البريطانيين كانوا ذات يوم ضد الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، لكن رئيس الوزراء البريطاني وقتها توني بلير ضرب بالرأي العام البريطاني عرض الحائط وذهب مع الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش الابن وغزا العراق ودمره وشرد الملايين من شعبه رغماً عن الإرادة الشعبية البريطانية وحتى الأمريكية، خاصة وأن نسبة كبرى من الشارع الأمريكي أيضاً كانت ضد الغزو. واليوم، وفيما يخص الموقف الشعبي العالمي من غزة، نرى الشيء نفسه يتكرر أمام أعيننا، ليس فقط على الصعيد الغربي، بل أيضاً على الصعيدين العربي والإسلامي، حيث تقف الشعوب في واد بينما تقف الأنظمة في واد آخر. لماذا؟ لأن السياسة في آخر النهار مصالح حتى بين العرب والمسلمين أنفسهم، ودعك من العواطف الدينية والقومية والشعبية المسكينة التي لا محل لها من الإعراب في السياسة إلا في محل مجرور أو مفعول به. من له مصلحة اليوم من الأنظمة العربية والإسلامية مع الفلسطيني المسحوق في غزة، أو مع العربي المنتوف في أي بلد عربي آخر؟ لا قيمة للمشاعر الوطنية أو الروحية في بورصة السياسة العربية والإسلامية.
أليست مصلحة الكثير من الأنظمة العربية اليوم مع إسرائيل وأمريكا وأوروبا حتى قبل التطبيع؟ انظروا إلى الدول العربية الكبرى والمؤثرة، هل مصلحتها مع غزة، أم مع المشاريع الكبرى التي باتت تربطها بالإسرائيلي والأمريكي في المنطقة؟ حتى في خضم القصف الإسرائيلي للأحياء المدنية وللمشافي في غزة، كنا نسمع من هذا النظام العربي أو ذاك، أن هذه الحرب لن تؤثر على العلاقات العربية الإسرائيلية، ولن تكبح جماح التطبيع القادم. كانوا يقولونها بكل صراحة: لن ندع غزة تقف في وجه مصالحنا الاقتصادية مع إسرائيل في المنطقة، لأن مصالحنا أهم من الجميع. ما هي مصلحة الدول العربية الغنية أو القوية مع الفلسطيني في غزة؟ ألم نسمع أحدهم وهو يقول إن انتصار حماس في غزة هو هزيمة للسلام العربي الإسرائيلي وللشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي بين العرب وإسرائيل؟ ولا ننسى أيضاً أن كثيرين يعتقدون أن الأنظمة العربية أصلاً لا تستطيع التمرد على الرغبة الأمريكية والإسرائيلية سواء كان هناك مصالح مشتركة بين الطرفين أو لم يكن. العين بصيرة واليد قصيرة. هل تعتقدون بعد هذا الكلام سيسمحون لغزة وشعبها أن ينتصر؟ ألم يقل نتنياهو نفسه لحلفائه العرب إن انتصار حماس هو هزيمة لنا جميعاً في الحلف الشرق الأوسطي الجديد؟
وهل نسيتم أيضاً طريق الحرير الهندي الجديد الذي كان محور اهتمام مجموعة العشرين الأخيرة في الهند؟ ألم يحظ بدعم غربي منقطع النظير ورصدوا له مئات المليارات؟ ألن يمر الطريق ببعض دول الخليج وغيرها من الدول العربية ويصل إلى إسرائيل ثم يذهب إلى أوروبا؟ هل يمكن لأمريكا والغرب والعرب أن يضحوا بهذا المشروع التاريخي من أجل غزة؟
وكي لا نركز فقط على محور التطبيع العربي مع إسرائيل، تعالوا ننظر إلى موقف ما يسمى بحلف المقاومة نفسه وموقفه من الحرب في غزة. هل وقف مع المقاومة في غزة كما يجب، أم إن ما يفعله حزب الله وشركاه مجرد ذر للرماد في العيون والضحك على الذقون؟ وكلنا طبعاً شاهد خطاب حسن نصرالله وكيف كان بمثابة تنصل غير مباشر من القضية برمتها. ألم يشتك قادة حماس أنفسهم من الموقف المخزي لحزب الله وميليشيات إيران في المنطقة تجاه الحرب في غزة؟ هل نسيتم أيضاً أن حزب الله الحاكم الفعلي للبنان وافق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل قبل أشهر لتقاسم حقول الغاز؟ هل نسيتم أن ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل سيتم قريباً بوساطة هوكشتاين الضابط الإسرائيلي الأمريكي الذي يصول ويجول في لبنان منذ أشهر وينسق مع نبيه بري وحزب الله على عينك يا تاجر؟ ألا يقول لنا حزب الله اليوم إن مصالحي مع إسرائيل اليوم صارت أقوى بكثير من مصالحي مع الفلسطينيين، وأن ما يسمى وحدة الساحات كذبة كبرى لم تعد تنطلي على أحد؟ ثم هل تعلمون أن النظام السوري الذي يتاجر بالقضية الفلسطينية منذ عقود لم تصدر عنه حتى إدانة واحدة للعملية الإسرائيلية في غزة؟
وعلى الصعيد الإسلامي، ألم تتفق تركيا وإسرائيل قبل أسابيع فقط على التعاون في مجال استخراج الغاز من البحر وتوزيعه عالمياً؟ ألم يكن الرئيس التركي على وشك فتح صفحة جديدة للتعاون الاقتصادي مع إسرائيل؟ ألم يكن على وشك تدشين المرحلة الجديدة بزيارة تاريخية لإسرائيل عنوانها المصالح المشتركة؟
لنكن واقعيين قليلاً، إلا إذا كان لدهاء التاريخ رأي آخر لا نعرفه، وقد يفاجئنا جميعاً. وسلامتكم!
غزة بعيداً عن العواطف!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 10.11.2023