اعتاد الشارع العربي من المحيط إلى الخليج أثناء الحروب العربية الإسرائيلية منذ عقود وعقود أن يكون كله على قلب رجل واحد. لم يحصل ذات يوم أن عربياً تجرأ حتى على الوقوف على الحياد في أي حرب بين بلد عربي وإسرائيل. الكل كان يساند أي جيش أو حركة عربية تدخل في أي صراع مع الإسرائيليين. كما كانت كل الحركات والفصائل الفلسطينية واللبنانية بدورها تحظى بدعم ومساندة الشارع من الخرطوم حتى بغداد.
ويمكن القول إن العرب طبقوا الحديث الشريف الشهير: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» بحذافيره دون أدنى تردد. وفي آخر حرب عربية إسرائيلية وهي حرب السادس من تشرين /أكتوبر عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، لم يقتصر الدعم العربي للحرب ضد إسرائيل على الشارع، بل امتد إلى الأنظمة العربية ذاتها، والكل يتذكر كيف اتخذ الملك السعودي الراحل الملك فيصل قراره التاريخي بقطع البترول عن الغرب بسبب دعمه لإسرائيل، مما شكل صفعة كبرى لأمريكا وأوروبا وقتها. وكي لا نذهب بعيداً في التاريخ، كلنا يتذكر كيف كان الشارع العربي وحتى الإسلامي من طنجة حتى جاكرتا يرفع صور زعيم حزب الله حسن نصرالله أثناء الحرب مع إسرائيل عام ألفين وستة. وكيف هلل السواد الأعظم من العرب لحزب الله واعتبروه حركة مقاومة عربية تمثل العرب والمسلمين جميعاً. وكانت صور نصرالله تُشاهد على آلاف السيارات في العديد من الشوارع العربية.
صحيح أن بعض الأصوات كانت تعارض حرب حزب الله وقتها وتعبرها مغامرة، لكن تلك الأصوات كانت خافتة جداً، وكل من يكتب كلمة أو يطلق تصريحاً بسيطاً في وسائل الإعلام ضد تلك الحرب كان يتعرض لهجمة شرسة من وسائل الإعلام والشارع العربي لإسكاته وتخوينه وشيطنته، على اعتبار أن كل من يرفع السلاح في وجه الإسرائيليين جدير بكل الدعم والتأييد والمساندة والتشجيع. ولا ننسى قبل ذلك طبعاً كيف أقام الشارع العربي الأفراح والليالي الملاح عندما أطلق صدام حسين عشرات الصواريخ بعيدة المدى على إسرائيل أثناء الحرب مع أمريكا. لكن لو قارنا الموقف العربي أيام زمان مع الموقف العربي اليوم من الحرب مع إسرائيل لوجدنا أن مياهاً كثيرة قد جرت تحت النهر منذ ذلك الوقت، وأن الزمن الأول تحول بشكل مرعب، لكن ليس لأن الشارع العربي صار يحب إسرائيل، بل لأن القناع سقط عن كثير من الوجوه التي كانت تتشدق بمقاومة إسرائيل، ولأن الشارع انقسم انقساماً شديداً بسبب الاصطفافات والتحالفات الجديدة ودخول إيران على خط الصراع، فانقلب الشارع مائة وثمانين درجة، ودخل في حروب فيما بينه بين مؤيد وداعم للحرب مع إسرائيل وبين مشكك ورافض أو في أحسن الأحوال ممتنع عن التأييد.
ولو نظرنا اليوم إلى ما يجري على مواقع التواصل من مناكفات ومناوشات وحروب إعلامية بين العرب لهرشنا رؤوسنا بشدة، لأن انقلاباً تاريخياً قد حصل، وباتت الحرب بين الشارع العربي نفسه لا تقل شراسة عن الحرب على الأرض. ولا ننسى الانقسام الحاصل اليوم في الموقف العربي الإعلامي الرسمي الذي بدوره يشكل مظلة للانقسام الشعبي، أو بالأحرى فإن انقسام الشارع ما هو إلا انعكاس للموقف الرسمي. فكما هو معلوم فإن عدد الدول التي باتت تفضل التطبيع على المواجهة مع إسرائيل ازداد بشكل ملحوظ وبات التعبير الإعلامي عنه أكثر صراحة وجرأة، ولم يعد أحد يخشى عمليات التخوين والتكفير السياسي التي كانت سائدة في الماضي. اليوم ترى وسائل إعلام عربية كثيرة لا تخفي رفضها لحرب غزة، لا بل تعارض ما قامت به إحدى الحركات وتعتبره كارثة بكل المقاييس. وفي بعض الأحيان تشتم رائحة شماتة إعلامية بما يحصل لبعض الفصائل في فلسطين ولبنان. ومن ناحية أخرى تجد هناك وسائل إعلام عربية مؤيدة ومتضامنة في تغطيتها للعظم مع الحراك الفلسطيني واللبناني في مواجهة الإسرائيلي. وينعكس الموقف المتشظي نفسه اليوم في ردود فعل الشارع على مواقع التواصل، حيث تجد معارك حامية الوطيس بين من يدعم الحركات بقوة، ومن يشيطنها ويهاجمها بشدة بكل جرأة ويعتبرها مسؤولة عن الكوارث التي حلت بغزة ولبنان. حتى أن هناك أصواتاً فلسطينية ولبنانية كثيرة توجه انتقادات صارخة الحركات الفلسطينية واللبنانية. ويتبادل المتصارعون أسوأ أنواع الشتائم والسباب والبذاءات فيما بينهم في خلافهم حول الحرب الجارية اليوم بين بعض الحركات وإسرائيل.
ولعل أسوأ المناوشات الإلكترونية اليوم تلك الحاصلة بين بعض السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين من جهة ومؤيدي الحركات وداعميها من جهة أخرى، فقد انبرى البعض لاتخاذ مواقف متذبذبة وأحياناً معارضة بشدة لما يجري اليوم في فلسطين ولبنان، بحجة أنه لا يمكن أن يؤيد حركات تستعين بمن قتل السوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين، أو لأن بعض الحركات ذاتها تدخلت في الثورات العربية لصالح الطغاة والقتلة والأنظمة ضد الشعوب الثائرة، فيرد عليهم الطرف الفلسطيني واللبناني بالقول: «ما الذي أجبرك على المر غير الأمر منه» أي أن غزة ولبنان لا تجدان من يقف معهما سوى إيران، وبالتالي ليس لديها اليوم رفاهية الاختيار والانتقاء، بل من حقها في مثل هذه الظروف العصيبة أن ترحب وتشكر كل من يساندها بغض النظر عن أي شيء آخر. ولا شك أن هذا الانقسام الخطير غير المسبوق في الشارع العربي يصب في آخر النهار في المصلحة الإسرائيلية، خاصة وأن أصواتاً كثيرة اليوم تبدو وكأنها متناغمة تماماً مع الرواية والموقف الإسرائيلي، حتى لو بدت أحياناً محايدة، لكن كما هو معلوم فإن الحياد في وقت الحروب والصراعات يكون لصالح طرف ضد آخر، خاصة إذا كان ذلك الطرف ذات يوم يُعتبر «عدواً» للعرب.، فالحياد هنا بمثابة تأييد ضمني. أضف إلى ذلك، أن هناك اليوم أصواتاً عديدة لا تكتفي بالحياد أو الصمت تجاه ما يجري في فلسطين ولبنان، بل حتى تعادي الحركات اللبنانية والفلسطينية وتؤيد الإسرائيلي، وهو ما لم يحدث منذ بداية الحروب العربية الإسرائيلية قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن.
أين كنا وأين صرنا؟ من الذي أوصلنا إلى هنا يا ترى وجعلنا نتجادل في عدالة القضايا الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية والليبية والسودانية؟ من المسؤول عن دق هذا الإسفين التاريخي لصالح إسرائيل في قلب الشارع العربي ومزقه وفككه وحوّله إلى ملل ونحل متصارعة حتى فيما يخص قضاياه الوطنية؟ أترك لكم الجواب!!
من الذي مزّق الشارع العربي؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 28.09.2024